طوال الأيام التي سبقت هروب زين العابدين بن علي لم يقفز أي من شيعة الرجل إلى بر الثورة، ربما لأن أحداً لم يتوقع غرق السفينة، فباستثناء سفير تونس في اليونسكو بقي رجال النظام متماسكين يشد بعضهم بعضا حتى شيعوا الرئيس إلى مثواه الأخير بمدينة جدة في المملكة العربية السعودية. لكن التجربة التونسية كانت رسالة بأن الأنظمة العربية أوهن من بيت العنكبوت وأن البلاء في سبيل بقائها استثمار خاسر. فهمها المصريون عاجلا فعَلا صوت «العقل» في بدايات الثورة واستقال عدد من رجالات الحزب الحاكم ونزل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى إلى ميدان التحرير ليقول إنه مع الثورة وإنه مع مطالب الشباب الذين توقع منهم نسيان حقيقة كونه من صنائع الرئيس المصري محمد حسني مبارك! كانت التجربة المصرية التي استلهمت ثورة تونس وسارت على دربها شبرا بشبر وذراعا بذراع دليلا آخر على أن الحِكمة وبُعد النظر وحتى موالاة الغرب لا تعصم من الرحيل الذي يكرهه الحكام العرب المعلقة قلوبهم بالخلود، ما يعني أن العديد من القطاعات التي كانت تصطف مع الحكام أو تسايرهم مستعدة للتخلي عنهم عندما يعلن الشارع التحرك خصوصا أنه بات من المؤكد أن مبارك لن يكون الأخير. جاءت ثورة الجماهيرية اللبيبة أكثر عنفا من سابقتيها فتخلى عن ملك الملوك والقائد الفاتح وزراؤه وسفراؤه وقادة القوات المسلحة.. لقد بدا للمسؤولين في ليبيا أن القذافي لن يتخلف عن بن علي ومبارك فقرروا الهروب جميعا من منطقة الخطر.. كان خارج توقع حتى أكثر الناس تفاؤلا أن يتهاوى النظام الذي مكّن له في الأرض أربعين عاما في أيامٍ ثلاثة أو أربعة، لكن رجال القذافي يريدون النجاة بأنفسهم ومنهم من يحاول سرقة الثورة أو الركوب على أمواجها، ولعل من هؤلاء وزير العدل السابق الذي نصب نفسه رئيسا للحكومة! إذن، بقدر ما فاجأ الشباب العرب العالم بقدرتهم على صنع الثورات واستعدادهم للموت في سبيل الحريات، فاجأ المسؤولون العرب المتابعين بقابليتهم للتوبة واستعدادهم للتلاحم مع الشعوب رهبة أو رغبة، لا يهم، المهم أن أي نظام عربي بعد ليبيا لن يعمر طويلا بعد أن يثور الشارع لأن المسؤولين لن يكونوا إلى جانب القادة فقد علمتهم الأيام أن الشعوب عندما تثور يسقط النظام. ولعل هذا ليس أغرب ما تشهده الساحة العربية من حراك، فاللافت للانتباه في أيامنا هذه هو تنوّر القبائل واصطفافها عضداً لثورة الشباب. حصل هذا في ليبيا وبات طبيعيا أن تستضيف القنوات ممثلين للقبائل للتأكيد على أن بني فلان –مثلا- قرروا الانحياز لمطالب الشباب المشروعة، ما دعا هذه القنوات للاهتمام بالتعداد السكاني للقبائل والمناطق التي تتواجد بها.. ذات الأمر يحدث في اليمن التي يصر شبابها أيضا على تشييع علي عبدالله صالح، حيث انضمت قبيلتا حاشد وبكيل إلى صفوف المحتجين في شوارع صنعاء وتعز وعدن. قد لا يكون من المهم التحاق القبائل بمطالب الجماهير في اليمن وفي ليبيا لأن النظام في البلدين أشرف على السقوط حتى قبل انضمام هذه القبائل. لكن تحرك القبيلة لصالح مطالب عصرية يرفعها الشباب على فيس بوك ظاهرة جديدة تستحق الدراسة من جهة، وتضيف على الحكام العرب أثقالا مع أثقالهم من جهة أخرى، فقد ظلت العشائر داعما قويا للحكام وعصية على فكر التغيير. سيكون تحرك القبائل في أي دولة عربية تشهد ثورات جماهيرية أسرع منه في ليبيا واليمن. ما يعني أن الزعماء فقدوا أهم عوامل البقاء. وليس مستبعدا أن ترفع القبيلة ذاتها شعار التغيير فتثور على الحكام ويصطف خلفها الشباب. إنه أمر وارد جدا خصوصا في الدول التي تملك فيها القبائل كلمة الفصل.