المسافة بين ساحة التغيير وميدان التحريرتزيدعن ثلاثة وثلاثين عاماً. في ميدان التحرير يتكدس من لم تُفلح العقود الثلاثة الأخيرة التي حكم صالح فيها اليمن في العبور بهم من عوالم القرون الوسطى المحكومة بثقافة الخرافة والجهل والتبعية إلى ثقافة القرن الواحد والعشرين التي تُمجِّد الفرد وتعلي من شأن حرياته. وفي ميدان التغيير يتجمع من حفروا باظافرهم جدار الجهل السميك الذي سيَّجه نظام صالح (طوبة طوبة على حد قوله) فنجحوا في فتح ثغرات فيه..تملَّكهم سحر النور الطليق في الجهة الأخرى فقرروا أن يضحّوا بكل شئ لهدم جدار صالح. في ميدان التحرير يحتشد الماضي بظلاميته وبدائيته؛ وفي ميدان التغييريشرق حاضرٌ أيامه حبلى بشموس المستقبل. وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. في ساحات الحرية والتغييرترتفع شعارات صادرة عن ارادة فردية مستقلة؛ شعارات تنطوي على صيغة الأمر وتعرف تماماً ماتريد: (إرحل) و(الشعب يريد...). وفي ميدان التحرير تتردد شعارات مهترئة مُقوْلبة لم يعد أحدٌ يرددها من نوعيَّة "بالروح بالدم نفديك يا علاّن" و "ما لنا إلا... هيفا". معدل الأعمار في ساحات الحرية والتغيير تحوم حول الثلاثين(سنّ الفتوّة والنبوّة)؛بينما يقترب معدل الأعمار في ميدان التحرير من معدلات سن الوفاة في اليمن. وهكذا يوشك ميدان التحرير أن يصبح مقبرة. عيون وأيادي شباب ساحة التغيير مُعلّقة على حائط التاريخ القادم الذي شرعوا في تأليفه. وعيون وأيادي اولئك المكدسين بفوضوية في ميدان التحرير مُعلّقة بالوجبة القادمة و(الأُجرة). يزور بلاطجة نظام صالح ساحات التغيير والحرية ليقصفونها ويزودونها بجرعتها اليومية من الرصاص الحي وقنايل الغاز السام فتزداد رئتها اتساعاً. ويزورون الميدان الآخر (الذي أنكر أسمه) ليعود النشاط الى الأفواه في مقصفٍ كبير يُسمى زوراً بميدان التحرير. وفقاً لهذه الرؤية يحاول نظام صالح إخلاء ساحة التغيير متحججاً بشكاوى سكان المنطقة؛ متصرفاً كمن يعبأ حقاً برفاهية وأمن مواطنيه..مواطنيه الذين لا ينام قبل أن يقصفهم بالقنابل والرصاص الحي وغاز الأعصاب. إن في محاولته تلك فعل ذو دلالة مجازية تتجاوز افراغ الساحة من المتظاهرين وصولاً إلى افراغ المستقبل من أحلام الناس ببناء دولة مدنية ومجتمع ديموقراطي. الغريب أن السكان المحيطين بميدان التحرير ومالكي المحلات هناك لا يعانون ولا يشكون من أية مضايقات جرَّاء الحديقة الجوراسية المتكاثرة على حدودهم. نظام صالح يسطح ويبسط الحوار بينه وبين شعبه ليحوله لمجرد إحتلال ساحات وهو الذي قام باحتلال وطن ذو ماضٍ عريق ومستقبل لم يتعب من الدق على أبوابه لما يقرب من 33 عاماً. محولاً إياه الى عزبة خاصة ومختزلاً الإنسان اليمني إلى كائن بائس لا يصلح لشئ غير الهتاف لأكاذيبه والتصفيق للغته البائسة التي فشلت 33 عاماً من الخطابات المرتجلة في إكسابها مهارات التفريق بين الذي والتي.
سؤال كبير يفرض نفسه بإلحاح ونحن ندقق في تفاصيل ويوميات الثورة: بماذا كانت أحزاب المشترك تفكر حين تقدمت بمبادرتها ذات الخمس أو السبع نقاط؟ وبماذا تفكر الآن حين تفكر في الانخراط في حوار مشروط مع صالح برعاية إقليمية (إن صحّت الأخبار)؟... لا أحد يدري. بالمقابل لايحتاج المرء لكثيرٍ من مهارات التحليل ليعرف بماذا يفكر الرئيس صالح حين يمتثل للحوار وتوافقاته. للرجل تاريخ حافل بالأكاذيب والنكث بالعهود فما الذي سيمنعه الآن أو في الغد القريب من التنصل والهروب من زلة لسان ألقاها أو سيلقيها على مجلس شورى يعين أعضاؤه ويعزلهم متى شاء؛ وبرلمان أخرج معظم أعضاءه من صندوق الإنتخابات السحري كما يخرج الساحر أرنبة من قبعته؛ وقادة معارضة يستطيع التخلص منهم في حوادث غامضة تُقيّد ضد مجهول أو تهمة أخلاقية سيئة الحبكة؛أوضمين أقليمي لم يأتِ إلا ليخرجه من ورطته. للرجل أيضاً تاريخ حافل في الهروب إلى الأمام حين يتعلق الأمربالتنصل من عهوده. قد يهرب إلى حرب سابعة في صعدة ,وقد يهرب إلى معركة دونكيشوتية مع تنظيم القاعدة في اليمن والجزيرة أو قد يهرب إلى الجنوب ليدهس في رحلة هروبه المزيد من حيوات الأبرياء. نتسائل مجدداً:بماذا يفكر الرئيس صالح حين يصر على البقاء حتى نهاية الفترة في 2013؟ لا أحد يستطيع أن يدّعي أن لديه جواباً متكاملاً لهذا السؤال. لكن الجميع يعرف أن الرئيس المصري المخلوع مبارك ماطل الجماهير المصرية لثمانية عشر يوماً فقط ليؤمن تحويل ثروته الفلكية الى حواضن مالية آمنة وعصيَّة على التقصِّي والتجميد.. لا لتأمين انتقال سلس وآمن للسلطة كما كان يدعي.