التوجهات والتوجيهات والقرارات الرسمية للبناء والتنمية تأخذ في العادة وقتاً طويلاً لتصبح شيئاً من الواقع، أما التوجهات والتوجيهات البلطجية والعبثية فتختصر طريقها إلى الواقع، وبمجرد صدورها شفهياً أو هاتفياً تكون قد فرضت نفسها، وبدأ مفعولها في التأثير، ويمكن أن نأخذ مجزرة الجمعة الدامية في 18 مارس كمثال بسيط لما لذلك، فقرار العنف وإعمال يد القتل في صفوف المعتصمين صدر ونُفذ على الفور، وبمجرد أن انتهى القتلة من فعلتهم، كان المؤتمر الصحفي الرئاسي جاهزاً للتبرير، مع التعبير عن الأسف والاستنكار طبعاً، كجزء من بروتوكولات العنف الرسمي التي يقول أحدها "اقتل القتيل وامشي في جنازته"! في المقابل تسير التحقيقيات الرسمية الخاصة بالمجزرة ببطيء حد الموت، كأنما تنتظر نسيان الناس واتجاه سير الأحداث، وقد يقوم "حارس البوابة" بمهمة تعديل نص التحقيقات والاتهامات وصولاً إلى تقييد القضية ضد مجهول، وهناك قضايا كثيرة بعمر هذه السلطة يمكن للقارئ أن يتذكر منها ما يشاء للوصول إلى الحقيقة المُرة الممزوجة بسؤال: ماذا بقي لهذه السلطة أن تقدمه لليمن؟ وهل سيصلح صالح في سنة ما أفسده في عقود؟! ما من شك في أن الأوراق الحقيقية والفعالة التي كانت بيد الرئيس قد تساقطت لصالح التغيير، وهو ما دفع بالأمور إلى هذا المستوى من المواجهة والمكاشفة، لدرجة أن يظهر صالح على الفضائيات صارخاً "أنا ومن بعدي الطوفان"، إذا لم يبق في السلطة فستتجزأ اليمن إلى أربعة أجزاء، الانفصاليون سيفعلون، والحوثيون سيتركون، والقاعدة ستنطلق، ولن يستطيع اليمنيون أن يحلوا مشكلة واحدة من مشكلاتهم، وغير ذلك من العناوين "الشمشونية" التي بدأت في الحدوث، وهو ما يُعجّل بثورة التغيير ويرفع من أسهمها، فالسلطة الحالية فقدت السيطرة على أعصابها فضلاً عن سيطرتها على مقاليد الأمور، وبالتالي آن لها أن ترحل فوراً، لأن بقاءها يعني هدم اليمن بما ومن فيها، والتطورات الأخيرة تؤكد ذلك، ولا فرق اليوم بين أن تكون السلطة متورطة في نشر الفوضى أو مكتوفة الأيدي! تنطلق الثورة الحالية لتدارك الفوضى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وينطلق تيار "شمشون" للانتقام من الشعب والوطن، ظناً منهم أنهم سيعبثون عند رحيلهم أكثر مما عبثوا في بقائهم، وكأن لديهم رصيد من مواهب التدمير والعنف والفوضى يريدون التخلص منه، والسلطة هي المكان الوحيد الذي تنطلق فيه أفكارهم وتتحقق به مشاريعهم، والنتائج بادية في وجوه اليمنيين وأوضاعهم وأوجاعهم، وفي تقارير المنظمات المحلية والدولية بالأرقام والنِسب، وكل حرٍ عاقل مقتنعٌ بأن السلطة الحالية لم يعد لديها طاقة للبناء، المشكلة اليوم في "شمشون" وفريقه الذين يشعرون بأن الثورة انتقام يجب أن يواجهوه بالانتقام، من يقنع "شمشون" بعبثية ما يفكرون به ويطمحون إليه؟!. "شمشون" يرى أيضاً أن الشعب اليمني قبلي متخلف ومُسلّح، وكأنه لا يسمع ولا يعقل ما تردده هذه الاعتصامات من أنها سلمية وأن سلاحها الإرادة والعزيمة والصبر والصدور العارية، والقبائل المشاركة في تلك الاعتصامات جاءت مجردة من السلاح ومن كل ثاراتها وإرث صراعاتها، تنشد المستقبل في ظل دولة نظام وقانون، دولة لهم وعليهم على السواء. اليمن اليوم تعيد الاعتبار لذاتها، ذات الإيمان الذي لا فجور فيه، وذات الحكمة التي لا طيش فيها، وجماعة "شمشون" تزعجها هذه العودة بعد أن ظلت زمناً طويلاً تقف حجر عثرة في طريقها، تكرس الجهل والتخلف وتشعل الحرائق لتبقى حَكماً يتصنع الحكمة ويتشدق بالعدالة، وعندما دقت ساعة الجد احتمى بثقافته المتخلفة، رافضاً الولوج باليمن إلى العصر الجديد بمقتضياته الإدارية والسياسية والاقتصادية، وهو العصر الذي لن يقبل الماضي بأشخاصه وأدواته! قبل أن يقول أجدادنا للملكة بلقيس "الأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين" قالوا "نحن أولوا قوة وأولوا بأسٍ شديد"، بمعنى إما الحكم الرشيد وإلا الباس الشديد، وهذا البأس اليماني هو قوة الإيمان وحكمة القوة، وهو بالضبط ما يجسده ثوارنا اليوم في ساحات الحرية والتغيير، ولسان حالهم يقول: شمشون إنا معشرٌ يمانون، افعل ما شئت فإنا صامدون.. صابرون.. منتصرون!
* الشطر الآخر من العنوان عبارة للشاعر الجاهلي امرؤ القيس الكندي الحضرمي وهو يخاطب بلدته "دمون" في وادي حضرموت فيقول: تطاول الليل علينا دمون.. دمون إنا معشر يمانون.