يا شباب الثورة: إن من مهامكم الأساسية بناء مؤسسات الدولة الفعالة. فمن أجل أن تنجح الدولة الديمقراطية فإنه لا بد وأن يتوفر لها شروط ومتطلبات أساسية. فمن دونها قد تكون هناك دولة ديمقراطية ولكنها غير فعالة. وفي هذه الحالة فإن الديمقراطية تفقد أهم مبررات وجودها. إن هذه الشروط والمتطلبات تكمن في إيجاد التوازن المطلوب بين الديمقراطية، أي المشاركة الواسعة، والكفاءة، أي القدرة على اتخاذ القرارات وحل المشاكل وتحقيق الإنجازات. فإذا ما تم التركيز على المشاركة فقط فإنه من الممكن جدا أن تكون مؤسسات الدولة ديمقراطية ولكنها قد لا تكون فعالة. وفي نفس الوقت إذا ما تم التركيز فقط على الكفاءة فقد تكون مؤسسات الدولة فعالة ولكنها غير ديمقراطية. وفي كلا الحالتين فإن ذلك أمر غير قابل للاستمرار، مما يعرض المجتمع للاهتزازات وعدم الاستقرار السياسي. ومن أجل أن تكون الدولة اليمنية القادم مستقرة وقابلة للاستمرار فإن عليكم يا شباب الثورة أن تناقشوا وتتوصلوا للتوازن المطلوب بين الديمقراطية والكفاءة في مؤسسات الدولة الجديدة. إن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال إطلاق ثلاث مسارات رئيسية وهي: مسار اختيار القيادات السياسية الحالية والمستقبلية، ومسار اختيار القيادات الإدارية الحالية والمستقبلية، ومسار تحديد العلاقة بينهما. إذ أنه لا يمكن توفير الحد الأدنى من الديمقراطية والكفاءة في مؤسسات الدولة بدون ذلك. ولذلك فإنه لا بد من الفصل بين وظيفة ومهارات القيادات السياسية وبين وظيفة ومهارات القيادات الإدارية. فوظيفة القيادات السياسية تكمن في اختيار السياسات والتوجهات وإقناع الرأي العام بها. أما الوظيفة الأساسية للقيادات الإدارية فتكمن في تنفيذ هذه السياسيات والتوجهات الموافق عليها على أرض الواقع بأقل تكلفة ممكنة. إن إعداد وتأهيل واختيار القيادات السياسية الحالية والمستقبلية يجب أن يكون وفقا للأسس والمبادئ والأعراف الديمقراطية، حتى يمكن ضمان ديمقراطية مؤسسات الدولة. ولذلك إن المواصفات والمهارات المطلوبة لمن سيتولى أي قيادية سياسية يجب أن تكون متوافقة مع متطلبات الديمقراطية. فالقيادات السياسية الديمقراطية لا بد وأن تتمتع بقدر معقول من القبول العالم والإخلاص والصبر والتفاوض والتنازل. وكذلك فإن إعداد وتأهيل واختيارات القيادات الإدارية والمستقبلية يجب أن يرتكز على الخبرات الفنية والمهارات التنظيمية. فبدون ذلك فإن الاعتبارات السياسية قد تتغلب على الاعتبارات الفنية مما قد يتسبب في فشل مؤسسات الدولة الديمقراطية. ومن أجل إيجاد تفاعل بين القيادات السياسية والإدارية فإنه لا بد من تنظيم العلاقة بين الجانبين. فحتى تكون السياسيات والتوجهات والإجراءات التي يقترحها السياسيون ويسعون إلى إقرارها وقبولها من قبل الرأي العام قابلة للتطبيق فإنها لا بد وان تعتمد على مدى إمكانية القيادات الإدارية على تنفيذها. ومن الضروري كذلك أن يتاح للقيادات الإدارية أن تقترح بعض السياسات والتوجهات على القيادات السياسية وخصوصا تلك التي تكون ضرورة لنجاح وفعالية السياسيات الأخرى. كل ذلك يتطلب أن تكون آليات التفاعل بين الطرفين ملبية لكل من الديمقراطية والكفاءة. في مقال هذا الأسبوع سيتم التركيز على المسار الأول، أي على متطلبات إطلاق مسار اختيار القيادات السياسية وما يتحتم على شباب الثورة القيام به من الآن لوضع الأسس السليمة لانطلاق هذا المسار. إن أهمية ذلك تنبع من حقيقة ما تسبب به غياب كل من الديمقراطية والكفاءة في فشل مؤسسات الدولة الحالية. فمن الواضح أن النظام الحالي قد سد كل الآفاق على كل من تتوفر فيه متطلبات القيادات السياسية ويرغب في ممارسة العمل السياسي. وبدلا عن ذلك فإن السلطة هي التي تحدد من يمارس العمل السياسي وفقا لمعايرها هي والتي لا تتضمن لا الديمقراطية ولا الكفاءة. إذ أنها هي التي تختار من يترشح في الانتخابات ومن يشغل المناصب السياسية أو القيادات الإدارية. ولا شك أن مواصفات السلطة لمن يتم اختيارهم تقتصر على الولاء أولاً وأخيراً. ومن الواضح أن من تتوفر فيهم مقومات الولاء لا تتوفر فيهم مواصفات القيادة السياسية والإدارية الناجحة مثل القدرة على اتخاذ القرارات والقدرة على الإنجاز والإخلاص وخدمة الشعب. ونتيجة لذلك فقد تركزت السلطات السياسية والإدارية في يد قلة في هرم السلطة. ولقد ترتب على ذلك عدم القدرة على التعامل مع العديد من المواضيع الهامة وعدم القدرة على اتخاذ القرار المصيرية. ونتيجة لذلك فقد ارتبط مصير الدولة والشعب بمصير القلة المحتكرة لعملية اتخاذ القرارات. الأمر الذي استخدم لتبرير احتكارهم للسلطة. وإذا ما طلب منهم مغادرة السلطة ردوا بأنه لا يوجد أي أشخاص أو جهات مؤهلة للحلول محلهم. ولسوء الحظ فإن أحزاب المعارضة هي الأخرى قد نحت هذا المنحى. إذ أنها تصر على التمسك بقيادتها التاريخية بالمراكز القيادية بحجة عدم قدرة الأجيال الشابة على ملء الفراغ الناشئ عن تنحيهم عنها. ومن أجل تبرير ذلك لأنصارها فإنها تغرس فيهم عدم الثقة في النفس وبالتالي إحباط أي طموح لهم في تبوء أيا من هذه المراكز القيادية. فتنحي هذه القيادات عن مواقعها في الأحزاب سيؤدي -لا محالة- وفق زعمهم إلى تشرذمها. يا شباب الثورة عليكم أن تدركوا أن احتكار السلطة في أيدي القلة هو الذي منع التداول السلمي للسلطة وهو الذي أضعف مؤسسات الدولة وهو الذي جعل المشاكل تتراكم وآثارها الضارة تتضاعف وهو الذي خلق اليأس والقنوط في نفوس أبناء الشعب. وإذا كانت ثورتكم قد خلقت أملا جديدا بمستقبل أفضل فإن عليها أن تسقط هذا الشعار الخادع والمضلل. عليكم أن تمحوه من ذاكرتكم. ولسوء الحظ فإن هذه الممارسات من قبل السلطة والمعارضة ووسائل الإعلام التابعة لهما أدت إلى بث الإحباط بين معظم القوى الفاعلة في المجتمع وعلى وجه الخصوص الشباب منهم. وقد استغل ذلك في الترويج للتمديد والتوريث لعدم وجود قيادات قادرة على إدارة البلاد. وعمل النظام على نشر خرافة "إذا ذهب الرئيس فمن يحل محله" وقد انخدع بها الجميع بدليل ترديدها من قبل بعض الأطياف من الشعب متناسين حقيقة أن أي إنسان لا بد وأن يموت وفي هذه الحالة فمن سيحل محله؟ يا شباب الثورة: إن أول خطوة في هذا المسار هي أن تتخلصوا من تأثير هذه الخرافة. فالشعوب كانت قبل الأشخاص وستستمر بعدهم. إن العديد منكم قادر على أن يكون قائدا سياسيا إذا ما آنس في نفسه القدرة على ذلك وتوفرت فيه المهارات المطلوبة. فليس المطلوب فيمن يتولى المناصب السياسية أن يكن رجلا استثنائيا. يا شباب الثورة: عليكم أن تدركوا أن سرعة نجاح ثورتكم يتطلب إسقاط هذه الخرافة. فما من شك بأن طول فترة ثورتكم يرجع وبشكل أساسي إلى الادعاء بأنه لا توجد أيد أمينة يمكن أن تستلم السلطة. ألا ترون أن جميع المبادرات تدور حول التوافق على من سيستلم السلطة؟ ألا ترون كذلك أن الأسماء المتداولة محدودة وهي جزء من الماضي؟ وإذا لم تنجح في الماضي فما الذي سيجعلها تنجح في المستقبل؟ ألا ترون أنكم يا شباب الثورة مترددون في اختيار من سيقود المرحلة المقبلة لأنكم لا تثقون بأنفسكم ولا بأحد من خارج النخب السياسية السابقة التي فشلت والتي يجب أن تتيح المجال لغيرها؟ ومن أجل ذلك فيجب أن تكون لديكم ثقة بنفوسكم. فمن حكمكم في الماضي سواء على مستوى مؤسسات الدولة أو على مستوى الأحزاب السياسية أو على مستوى منظمات المجتمع المدني هم بشر مثلكم. بل إنكم تتميزون عنهم من حيث التعليم والقدرات. وإذا استطاعوا أن يديروا مؤسسات الدولة فإنكم بكل تأكيد تستطيعون، بل وربما أفضل. يا شباب الثورة: إن نجاح ثورتكم يتطلب أن تفكروا بعقلية جديدة. وإذا ما تحقق ذلك فإنكم ستثقون بأنفسكم وبغيركم من أبناء اليمن الموهوبين الذي عملت السلطة وأحزاب المعارضة على تهميشهم وسد منافذ الصدارة بينهم. إذا التفتم شمالا وجنوبا سترون العديد والعديد منهم. فإذا لم تكونوا قادرين على تحمل المسئولية في المرحلة الانتقالية فإن عليكم أن تختاروا من الأجيال السابقة ممن هم قادرون على ذلك. إذ أن هناك مواصفات يجب أن تتوفر فيمن ينبغي أن يدير المرحلة الانتقالية مثل: الحيادية، التجرد، الرؤيا، الإخلاص والتأهيل. فالحيادية ضرورية لإيجاد قطيعة من التحيز الذي ساد المرحلة السابقة. فمن مارس التحيز في الماضي فإن احتمال تخليه عن ذلك في المستقبل ضئيل جدا. وعلى هذا الأساس فإنه ليس من الحكمة تجريب المجرب مرة ثانية. أما اشتراط التجرد فهو أيضا ضروري لأن ما سيتم تأسيسه في المرحلة الانتقالية سيؤثر حتما على المرحلة التي ستليها. وعلى هذا الأساس فمن لا يتوفر فيه التجرد فإما أن يتساهل في واجباته لعدم وجود حوافز سياسية أو غيرها تحفزه على القيام بما يجب عليه القيام به، أو أنه سيعمل على استغلال الصلاحيات التي ستعطى له لصالحه أو لصالح انتمائه السياسي. وبما أن المرحلة الانتقالية هي مرحلة استثنائية فإن نجاحها يتطلب قدرا كبيرا من الرؤيا في من سيتولى زمام الأمور فيها. وبما أنها انتقالية فإنها لا بد وأن تتضمن قطيعة مع الماضي. وبما أنها تأسيسية للمستقبل فإنها تتطلب قدرة على استشراف المستقبل. ولا يمكن أن يتعامل مع ذلك إلا من يتمتعون برؤية واضحة. لا يمكن لأي عاقل أن يجادل بالمصاعب الجمة التي ستكتنف المرحلة الانتقالية. وما لم يتمتع من سيكلفون بإدارتها بالإخلاص فإنهم لن يلبثوا طيلاً حتى يتراجعوا أمام أدنى صعوبات وعراقيل قد تواجههم. إن التأهيل مهم لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية بأسرع وقت وأقل تكلفة. ومع ذلك فإنه يجب عليكم أن تعدوا أنفسكم لتكونوا من القيادات السياسية في المستقبل. ولذلك فإن عليكم يا شباب الثورة أن تعملوا على فتح قنوات الإعداد لكل من لديه الموهبة ويرغب في العمل السياسي حتى يمكن للمجتمع أن يستفيد من مواهبهم. ومن هذه القنوات تشجيع الطلاب في المرحلة الثانوية والجامعية على إقامة منظمات طلابية تقوم على الانتخابات. وكذلك إنشاء مجالس محلية على مستوى القرى والمديرات والمحافظات يكون أعضاؤها منتخبين. ومن ذلك أن تكون قيادات الأحزاب السياسية منتخبة من خلال انتخابات حرة ونزيهة. إذا قمتم بذلك فإنكم ستعملون يا شباب الثورة على بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الفعالة ابتداء من الآن.