كل شيء تقريباً معجون بالزيف، لا يمكن لمن يتابع ما يقوله الرئيس وإعلامه والمحيطين به، إلا ويشعر بالقرف والغضب، هذا ما يتوقع منهم وهو شأنهم، ولا يمكن للمرء أن ينتظر منهم إلا ما يليق بهم وعرفناهم به طوال السنوات الماضية. لكن المؤلم جداً أن يتسابق بعض إخواننا اليمنيين في ميدان السبعين لاستعراض الباطل وتغذيته بشكل مخيف، من المؤسف حقاً أن يجد المرء بعد كل ما سمع ورأى أن بعضاً من هذا الشعب لا يزال يدافع عن بؤس العقود الثلاثة الماضية. إخوتنا اليمنيون في الجانب المضاد للثورة يعقدون الأمر، وهذا شأنهم أيضاً، ولو أن كل شيئ في هذا البلد سار بالطريقة التي رغبنا بها جميعاً لما اضطروا للزيف أو لجؤوا له، ولما احتجنا القيام بثورة أصلاً. ليس النظام وحده أو رئيس البلاد من يثور الناس ضدهم، الكثير من الأفكار والسلوكيات التي ارتبطت بالحياة السياسية لليمنيين ورتبت للوضع الثوري الآن هي المعنية بالدرجة الرئيسية بهذه الثورة، وفي المحصلة فإن إسقاط النظام ورحيل الرئيس ليسا سوى مفتتح لطريق يسير فيه اليمنيون نحو مستقبلهم. أو إعادة اليمنيين إلى الطريق الصحيح الذي رسمته الأحلام المشتركة لمن ناضلوا بصدق وإخلاص طوال العقود الماضية. وفي تقديري فإن إطالة أمد الثورة اليمنية، وعدم إنجازها لأهدافها بالسرعة التي كنا نرجو ونأمل، ليس شيئاً خارجاً عن الفهم بالمطلق، بل يمكن النظر إلى هذه المدة الزمنية الطويلة بإيجابية كبيرة، حيث نضجت فيها ظروف ومعتقدات وأفكار ليس بمقدور أي فترة زمنية بهذا القُصر -خارج اللحظة الثورية- أن تستوعب كل ما حدث ويحدث حتى الآن. مع ذلك هناك أخطاء وتجاوزات، وربما فرص لم توظف أو تستغل بالشكل الذي يخدم الثورة، لكن في الأساس فإن مجموع الظروف التي رافقت هذه الثورة منذ انطلاقتها وحتى الآن يجب أن توضع في سياق خصوصية هذا المجتمع، وطبائع اليمنيين وسلوكياتهم تجاه هذا الطرف أو ذاك. بكلام آخر فإن مغالطات الرئيس المتكررة، والدفاع المستمر من أركان النظام عن باطلهم ما كان له أن يستمر في بلد آخر، من الصعب أن يستمر الحديث عن الرئيس الأب الذي لا يصح لأبنائه أن يطردوه من المنزل، وعليهم احترامه وتقبيل يده إن لزم الأمر، هذا تفكير رعوي غير قابل للبقاء في أي بلد يتدرب على الديمقراطية، لكنه هنا في اليمن يجد له قبولاً وتصديقاً حتى من الذين يعملون في تدريس العلوم السياسية في الجامعات، ويمكن للقارئ أن يتابع ويصغي لما يقوله البعض على الفضائيات الرسمية وسيكتشف ما هو أفدح من ذلك. يقول متحدث في برنامج للتلفزيون الرسمي إن اللحم الفاخر الملفوف بالقصدير يوضع يومياً على مائدة الشباب في ساحة التغيير، وهذا خبر جيد، يستطيع إغراء نصف أبناء هذا البلد الذين يعيشون تحت خط الفقر للالتحاق بهذه الساحات. المشكلة الوحيدة في هذا الخبر أنه يصدر من الإعلام الرسمي، يعني الخبر غير صحيح، لكنه يمني بامتياز، وجبة الكنتاكي التي اخترعها التلفزيون المصري لشباب الثورة المصرية لا تليق بذائقة الرجل اليمني، وحتى يبدو تلفزيون صنعاء مقنعاً، سيشير إلى لحم الحنيذ والدولارات بدلاً من الكنتاكي واليورو. بالعقلية البليدة نفسها تسيل من قنوات الإعلام الرسمي أخبار وأحاديث تعج بالكذب والنفاق بشكل قبيح، واتهامات لا يمكن لصاحب عقل أو مروءة وشرف أن يفكر بها فضلاً عن ترديدها وبثها من خلال قنوات رسمية يفترض أنها لكل اليمنيين، ومع ذلك تجد من يصدقها ومن يتصل بك ليقول لك: «هيا شفت ما تفعلوه يا معارضة». المصيبة أن الإعلام الرسمي تحول إلى مصنع كبير للزيف، وجزء أصيل من خطته الإعلامية تقوم على إغراق اليمنيين بالتفاصيل الدقيقة التي تهمل الضحية وتمجد الجلاد، ثم تدع اليمنيين ينشغلون بهذا الحديث وينسوا ما يحاربون أصلاً لأجله ويناضلوا لتحقيقه. تذكروا مثلاً كيف تحولت قصة الرجل الكبير في السن الذي تعرض للضرب جوار ملعب الثورة إلى قصة كبيرة، في الوقت الذي تجاهل فيه الإعلام الرسمي الشهداء الذين سقطوا في ذلك اليوم ووصل عددهم إلى 15 شهيداً، ويستطيع القارئ أن يتذكر عشرات القصص اليومية التي تحاول إلهاء الناس عن مطلب الثورة الرئيسي في التغيير. أشعر بالأسف حقاً أن يدافع المرء عن أشياء جوهرية في الحقوق والمواطنة والرغبة في التغيير أمام يمني لا يريد أن يصدق أنه يمكن لرجل غير الرئيس صالح أن يصنع ما هو أفضل لهذا البلد، أمانة عليكم ما يقول الواحد؟ بعض الناس يؤكدون أنك على صواب طالما كانوا في الجانب الآخر، ويشعر المرء أحياناً بضرورة مراجعة بعض قناعاته أو أفكاره إن وجدت تأييداً من الطرف الآخر، هذه الفكرة ليس فيها أي تمييز فوقي غير أنها تذكرني بالرئيس وما يقوله على الدوام، وفي الطريق دائماً تصادفنا نسخ عديدة من اليمنيين يشبهون رئيسهم. أريد فعلاً أن يتوقف هذا الزيف وهذا العناد، وأن يفهم بقية اليمنيين في الصف المضاد للثورة أن «الشريعة» الدستورية (حق الرئيس) كذبة كبيرة ليس لها أي أساس حقيقي بالمرة، ربما هم يدركون ذلك، أو سيدركونه لاحقاً، غير أن هذا التأخير في الفهم ليس في صالح أحد، ويخدم فقط الرئيس صالح الذي يتحدث عن الشرعية الدستورية وكأنه سقراط في شوارع أثينا يتحدث لمريديه عن الفضيلة ومبادئ الديمقراطية. المؤكد أن هذه الثورة ستنجح، وهي قريبة جداً من ذلك، ولن يذهب كل هذا الزيف إلى الجحيم، سيظل بعضه يطارد بعض من صنعوه، وربما سيغري آخرين في العهد الجديد تجربته والاستفادة منه، لا أحد يستطيع التخلص تماماً من بعض طبائع الإنسان، ويصبح نبيلاً ونزيهاً على الدوام.