ثلاثة أشهر منذ أن بدأت الاحتجاجات الشعبية بشكل جدي، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح ما زال يواصل تشبثه بالسلطة. لقد أنشق جيشه، وهجره شيوخ القبائل القوية فيما يتواصل سقوط المحتجين السلميين في الشوارع برصاص البلطجية والقناصة، لكن ومع ذلك مازال صالح باقياً متحصناً في القصر الرئاسي.
إن رفضه التنحي مقابل إصرار المتظاهرين على موقفهم أفضى إلى خلق مواجهة متوترة في جميع أنحاء البلاد في الوقت الذي ينتظر فيه كل طرف أن ينكسر أو ينهار الطرف الآخر أولاً. هذه المدة الطويلة، والوداع الطويل يخنق اقتصاد اليمن الهش أصلاً كما ويفاقم المخاوف الأمنية الخطيرة التي قد تستغرق سنوات لمعالجتها.
لقد كانت اليمن منذ فترة طويلة مطبخ التغير السياسي في العالم العربي. وثورة 1962، التي أرست الأساس للنظام الجمهوري بشكل رمزي في الشمال، كانت نسخة كربونية من ثورة مصر خلال عقد من الزمان. حيث قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان يحرض على الثورة، بإرسال الآلاف من قواته إلى البلاد، وساعدت في صياغة أول دستور يمني، والذي كان على غرار سلفه في مصر. وبعد خمسين سنة تقريباً لا تزال القصة نفسها. هاهي اليمن مرة أخرى تقتفي خطى مصر.
في 11 فبراير، وهو اليوم الذي تنحى فيه حسني مبارك في مصر، خرج عشرات المحتجين اليمنيين إلى الشوارع للمرة الأولى خارج مظلة المعارضة اليمنية الرسمية. ولأسابيع، على غرار ما استوحته من الأحداث في تونس ومصر، كانت أحزاب اللقاء المشترك، وهي عبارة عن تكتل انتقائي من ستة أحزاب معارضة، قد نظمت احتجاجات كوسيلة للضغط على الرئيس صالح لإسقاط التعديل الدستوري الذي كان يتبناه عبر البرلمان ومن شأنه أن يتخلص عبره من تحديد الفترة الرئاسية.
نظمت المعارضة المسيرات التي أخرجت الآلاف إلى الشوارع، بيد أنه لم يكن هناك استمرارية [استدامة]. لم تكن تلك الاحتجاجات تستمر سوى لبضع ساعات، وبعد الظهر، عندما يتقهقر العديد من اليمنيين إلى مجالسهم اليومية لمضغ القات، فإن تلك المسيرات تختفي وتنحل. بيد أن ما بدأ يوم 11 فبراير كان مختلفا.
الاحتجاجات هذه المرة لم تنته. والموالين لصالح، الذين فزعوا من تكرار ثورة القاهرة التي اندلعت في 25 يناير، منعوا المحتجين من الوصول إلى ميدان التحرير في صنعاء، الميدان الذي مثل غيره من أشياء أخرى كثيرة في اليمن أستمد اسمه من الأصل المصري. إلا أن الطلاب والناشطين الشجعان بدأوا في نهاية المطاف بتشكيل مخيم خارج جامعة صنعاء، وسميت المنطقة بميدان التغيير. وتدريجياً وببطء، وبشكل متقطع وغير منتظم، انتشرت الحركة في مختلف أنحاء البلاد.
في تعز، حيث تشكل مركز آخر من المقاومة الشعبية، خيم الشباب وسط المدينة، متعهدين بعدم الرحيل حتى يرحل صالح. وفي مدينة عدن الميناء الجنوبي، التي كانت عاصمة اليمن الجنوبي سابقاً، نشبت هناك معارك حينما فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين الذين قاوموهم بالحجارة وقطع خشنة من الاسمنت.
طوال فبراير/ شباط، وأوائل مارس/آذار، اكتسبت الاحتجاجات زخما بينما انشق مجموعة من البرلمانيين وبدأت حركة التغيير في الانتشار إلى المناطق الريفية في اليمن. وعلى خلاف مصر التي تمتلك معدل كبير جداً لانتشار الإنترنت، كان الكثير من اليمنيين مازالوا يعانون من نقص في الكهرباء، الأمر الذي أعاق التنظيم في وقت مبكر.
وفي 18 مارس، جاءت نقطة التحول عندما قام القناصة في المباني المجاورة لساحة التغيير بفتح النار على المتظاهرين بعد لحظات من أدائهم لصلاة الجمعة. وفي أقل من نصف ساعة من تواصل إطلاق النار الكثيف، تمكن المسلحون من قتل 52 محتجا، معظمهم أصيبوا بطلقات مباشرة في الرأس.
اللقطات الدامية للشباب الملطخ بالدم الذين كانوا يسحبون إلى مسجد قريب، أجبروا على تحويله ليعمل كمركز فرز ومستشفى مؤقت، وكانت تبث هذه المشاهد في جميع أنحاء العالم عبر قناة الجزيرة.
وبعد ثلاثة أيام، قام علي محسن الأحمر، وهو قائد الفرقة الأولى مدرع والجنرال الأقوى في الجيش، بالإعلان عبر القنوات الفضائية عن انشقاقه والانضمام إلى المتظاهرين. وبعد أن أنضم الأحمر، الذي يعتبر أيضا قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية، وهي واحدة من أربع مناطق عسكرية في اليمن، أنضم بعده بلحظات جنرالات كبار. وفي غضون عشر دقائق فقد صالح اثنين من الجنرالات المسئولين عن نصف البلد. و بشكل خاص مثل انشقاق الأحمر صدمة كبيرة، باعتباره جاء من قبيلة سنحان وهي قبيلة الرئيس نفسه، إلى جانب أنه كان يمثل القبضة الحديدية الأولى لحكم صالح لأكثر من ثلاثة عقود.
واقتفى عدد من كبار الشخصيات العسكرية خطى الأحمر، في حين تدافع سياسيون في الداخل والخارج بسرعة لإعلان انضمامهم لتفادي أن يكونوا الشخص الأخير في السفينة الغارقة، والعديد منهم اتصلوا بقناة الجزيرة ليعلنوا استقالتهم على الهواء مباشرة. وفي الوقت الذي أنقشع فيه الغبار كانت أجزاء كبيرة من المؤسسة العسكرية والسياسية قد أعلنت انشقاقها، وكانوا يدعون الرئيس صالح إلى التنحي.
والفروع الوحيدة التي حافظت على ولائها كانت فروع الجيش المنضوية تحت قيادة أفراد من عائلة صالح مباشرة. القوة الجوية بقيادة أخيه غير الشقيق، ومعظم قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، التي يسيطر عليها نجله، وقوات الأمن المركزي، التي يرأسها ابن أخيه، جميعهم واصلوا دعمهم للرئيس.
وعلى الرغم من أن البلاد شهدت بعض اللحظات المتوترة، بضمن ذلك محاولة اغتيال الأحمر في مطلع ابريل/نيسان التي زعم أن من قام بها كان صالح، إلا أن الجانبين تجنبا وإلى حد كبير توسيع القتال. و بدلا من ذلك غرقت صنعاء والكثير من أجزاء البلاد المتبقية في حالة من الشلل السياسي. لقد تخلت وحدات من الجيش عن نقاط التفتيش وسحبت من قواعدها في بعض المناطق الريفية، وترك الأمن في هذه المناطق للقبائل. وهذا خلق حالة عند بعض القبائل، الحريصة على حشد الشكاوى ضد الحكومة، فقطعت خطوط الكهرباء وسدت الطرقات لمنع الإمدادات من الوصول إلى العاصمة.
اقتصاد اليمن الهش أصلا لن يكون قادراً على التعافي. وإحتياطياته المصرفية المركزية، بدأت - وبحسب ما يقال - بالتناقص بعد أسابيع من بدء تنظيم الاحتجاجات المضادة التي تقوم بها الحكومة. تراجع الريال اليمني مقابل الدولار، وبعد أن كان يحوم حول 200 مقابل دولار واحد، وصل الآن إلى 250 ريالا. بل حتى أن بضعة بنوك كانت تمتنع تتعامل مع الدولار. كما أن المأزق السياسي أيضا أثار نقصاً كبيرا في غاز الطهي، إلى جانب أن إمدادات الوقود من الديزل والبنزين بدأت هي الأخرى بالتناقص.
والمياه، غير الوفيرة من أساسه أصلاً، تناقصت إمداداتها هي الأخرى بنفس الطريقة. كما أن أسعار المواد الغذائية الأساسية ارتفعت أيضاً، الأمر الذي سيرهق كاهل العديد من الأسر اليمنية التي تقترب من خط الفقر. كل هذا يمكن أن يكون له على المدى الطويل عواقب كارثية على اليمن، في الوقت الذي تصارع فيه للتكيف مع اقتصاد ما بعد النفط بتخطيط قاصر وبنية تحتية متداعية.
إن خروج صالح، حينما يحدث ذلك وهو ما يتوقع حدوثه على أية حال، فإن هذا الواقع الأليم لن يتغير. ذلك أن خلق فرص العمل، ليس بالمهمة السهلة في اليمن، الذي يعاني من بطالة تصل إلى 45 في المئة، وسيكون التحدي الرئيسي للحكومة القادمة حينما تحاول تصحيح مسار البلاد بعد سنوات من سوء الحكم.
إن حركة الاحتجاج في الوقت الراهن تتماسك مع بعضها البعض فقط من خلال معارضتها المشتركة لصالح. وببقاء هذا التحالف الهش في مواجهة التحديات الاقتصادية المتصاعدة والتطلعات المرتفعة المصطنعة للشباب في البلاد فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى إنهاك قادة اليمن الجدد.
إن أي إخفاق، لاسيما في التصدي لمشكلة البطالة، لربما يفيد تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. والتنظيم استفاد أصلاً من الأمن المتدهور في أجزاء عديدة من البلاد لإعادة تنظيم صفوفه وخطط لمزيد من الهجمات المستقبلية. وفي آخر هجوم كان لدى القاعدة في جزيرة العرب هذا الوقت الكثير والمساحة الواسعة للعمل والإعداد لهجوم يوم عيد الميلاد في 2009، الذي كاد أن ينجح في إسقاط طائرة ركاب فوق مدينة ديترويت.
المسئولون الأمريكيون مدركون لمخاطر الفراغ الأمني وقد حرصوا على توخي مصلحتهم بعد أن قتل أسامة بن لادن في 1 مايو، وعلى ما يبدو تم تخويلهم بتنفيذ الضربة التي قامت بها الطائرة بدون طيار التي قتلت اثنين من القاعدة المشتبه بهم في جزيرة العرب في جنوب اليمن في 5 مايو. والعملية، التي تعتبر هي الأولى تقريبا لهذا العام في اليمن من جانب الولاياتالمتحدة، تعد تصعيدا خطيرا قد يأتي بنتائج عكسية بسهولة.
ولم تحقق آخر غارة جوية أمريكية، في مايو 2010، غايتها في استهداف تنظيم القاعدة وبدلا من ذلك قتل مسئول في الحكومة اليمنية، هو نائب محافظ مأرب جابر الشبواني. وقبيلته حاليا هي من بين تلك القبائل المحاصرة للطرق والتي دمرت خطوط الكهرباء، وهي تبرر أفعالها تلك انتقاما من صالح على تواطؤه في ذلك الهجوم. وكل هذا، بالطبع، لم يفاقم الأزمة السياسية فحسب بل أيضاً فاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها العاصمة.
اليمن تمر بمنعطف خطير. لقد فشلت كل محاولة للوساطة، بما في ذلك النهج الخاطئ الذي أتبع مؤخرا من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، بينما أن صالح يتلكأ ويراوغ على الوعود العامة، على أمل البقاء بطريقة أو بأخرى في السلطة.
وطوال الأزمة حافظت الولاياتالمتحدة، التي من الممكن أن تفعل الكثير للضغط على صالح، على نغمة أصم شاذة. وفي 28 أبريل، بعد يوم من قتل قوات الأمن ل 15 محتجا، أصدرت السفارة الأمريكية في اليمن بيانا يدعو المحتجين إلى تجنب "كل المظاهرات والمسيرات والخطابات الاستفزازية، خلال الأيام القادمة." البيان الصحفي في فقرته الثانية طلب، في جوهره، من المحتجين السلميين في اليمن التخلي عن نقطة القوة الوحيدة التي يمتلكونها.
الأخطاء العامة المتكررة من جانب الدبلوماسيين في صنعاء تترافق جنبا إلى جنب مع مخاط الغارات الجوية المتجددة لتأجج الحالة المضطربة أصلا. وبدلا من دعم خطط الآخرين بشكل خاص، والتي يتم التشكيك فيها على نطاق واسع على أرض الواقع، فإن الولاياتالمتحدة تحتاج إلى أن تتولى زمام المبادرة في دعوة صالح إلى التنحي بشكل صريح.
في الوقت الراهن، من الصعب التيقن مما يحدث في اليمن، لكن من الواضح أنه كلما طالت فترة وداع صالح كلما ساءت حالة البلاد أكثر. ----------- جريجوري جونسون: باحث أمريكي متخصص بالشأن اليمني. المقال نشر باللغة الانجليزية يوم الأربعاء 11 مايو 2011 على صفحته "واق الواق" المتخصصة بنشر كل ما يكتبه حول اليمن. الترجمة خاصة بالمصدر أونلاين