مصير اليمن لا يعني أهله وجيرانه الأقربين وحدهم. تعدد أوجه الشبه بين الأزمات التي يعيشها اليمن وتلك التي تعاني منها أكثرية الدول العربية، على درجات متفاوتة من الحدة، يجعل من اليمن مؤشراً لمستقبل قابل للتكرار والنسخ في غير مكان. تقارير المؤسسات الدولية، التابعة للأمم المتحدة أو التي تمولها جهات مدنية (أو أهلية، بحسب الاختلافات في التعبير)، تُجمع على رسم صورة كارثية للأوضاع الإنسانية عموماً في اليمن: فساد يفوق الوصف يخترق الإدارة العامة أفقياً وعمودياً ليصل إلى الأجهزة العسكرية والأمنية. فقر يضع اليمن في قائمة الدول الأشد حاجة في العالم، وهو موقع لم يبارحه اليمن في تقارير التنمية منذ أعوام طوال. تمييز جندري قاس يظهر أكثر ما يظهر في ارتفاع مستوى تسرب التلميذات من المدارس. هذا ناهيك عن جملة مشكلات اقتصادية وبيئية واجتماعية، تتضافر جميعاً لترسم المشهد اليمني الحالي ولتسمه بميسمها الأسود.
فاقم سوء الأحوال عجزٌ مزمنٌ عن ايجاد وظيفة اقتصادية في التقاسم الدولي الحالي للعمل، باستثناء دور المستهلك والمستورد المنتظر تحويلات الأبناء العاملين في الخارج في المقام الأول. يرفد ذلك تدهور حصة الزراعة التي تعتمد عليها شريحة كبيرة من اليمنيين في معاشها، من الناتج الوطني، وتراجع أسعار النفط الذي عُول عليه وعلى شقيقه الغاز كثيراً في أحلام النهوض الاقتصادي التي اتضح أنها لا تزيد عن أنها أوهام أو أضغاثها.
يعضد هذه الأجواء ويحيط بها ويغذيها، في الآن عينه، «توافق» على توزيع السلطات بين الدولة المركزية والمكونات الأساسية للمجتمع اليمني، أي قبائله، التي لا تني توسع حدود سلطاتها وصلاحياتها على حساب الدولة إلى ان لامست حدود إلغاء هذه وحذف مظاهر سيادتها من الصورة العامة للبلاد.
بدايات انقلاب الأزمة اليمنية، تكمن في موقع البلاد الذي يبدو فضفاضاً عليها بمعنى حمله لقيمة إستراتيجية تتطلب وجود سلطة راسخة القدم في الداخل لمنع اختراقه وتحويله إلى ساحة للحروب الإقليمية الباردة. وهذه صفة أولى مشتركة مع دول عربية كثيرة.
لكن هذا ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. العثور على الوظيفة الاقتصادية على المستوى العالمي، مهمة لم تفلح فيها أيضاً الدول العربية، في معزل عن تصدير المواد الأولية والأيدي العاملة المتدنية والمتوسطة الكفاءة، أو الإصرار على أدوار خدمية باتت تتطلب إعادة تقويم جذرية، على الأقل، وسط التغيرات الاقتصادية الدولية. أوضاع التعليم في العالم العربي تسير من سيِّئ إلى أسوأ، ولا تفعل مئات الجامعات والمعاهد التعليمية العليا سوى إنتاج أجيال من حملة الشهادات التي يصعب ان تجد من يأخذها على محمل الجد في أسواق العمل وفي مواقع البحث العلمي سواء بسواء. هذا من دون ذكر الإحباط الذي يحمله مئات الآلاف من الخريجين العاطلين من العمل والباحثين في الوقت ذاته عن مخارج من الانسداد الذي يحمّلون مسؤوليته، عن حق، لعقود من اللامبالاة الرسمية بمصائر الأجيال الشابة.
أوضاع النساء والشبان في اليمن وفي العديد من الدول العربية تتشابه في أكثر من جانب. الفساد ليس حكراً على اليمن كذلك.
وبقفزة صغيرة واحدة يمكن الانتقال من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، إلى ما يجوز الاعتقاد انه القاعدة التي نشبت الصراعات الحالية فيها ونشأت عليها. الفشل في مشاريع التنمية العربية لا يقف بعيداً من تصاعد الوعي بالانتماءات الجزئية، ما دون الوطنية، (إذا جاز التعبير) والانطلاق «لاستعادة» حقوق الطائفة والجهة أو للتبشير بمشاريع خلاصية تستند إلى رؤى فئوية تبيح نفي الآخر قتلاً وتهميشاً.
لبنان والعراق والسودان دول عاشت هذه التجارب وتعيشها في السياسة والاقتصاد والاجتماع. الصومال، بمعنى ما، يندرج في اللائحة ذاتها التي تشمل أيضاً مناطق السلطة الفلسطينية. ويبدو اليمن، مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات في الأسباب المباشرة، كمن يسير على طريق سبقه عليها كثر من الأشقاء والجيران. وهذا لا يمنع بحال من تمتع بعض «المفكرين» العرب بخيال فيه من الخصوبة ما يكفي لتوجيه النصيحة باعتماد الحل القومي بعدما ثبت فشل الدولة الوطنية «القُطرية».
أما الحلول الواقعية، أي تلك التي يفرزها الواقع العربي، فتتراوح بين الدعوة الهزيلة التي وجهتها جامعة الدول العربية إلى اعتماد الحوار في اليمن كسبيل مفضٍ إلى التسوية السياسية، وبين تلويح عبدالملك الحوثي بإعلان الجهاد واللجوء إلى المفاجآت رداً على رفض سلطات صنعاء عرضه بوقف إطلاق النار، وهي (الحوار والجهاد والمفاجآت) مما خبره مواطنون عرب كثر وعاينوا آثاره على أجسادهم وبيوتهم نزوحاً وموتاً ودماراً. وبين هاتين الدعوتين ترتفع علامة استفهام تمتد ليغطي ظلها فراغ المستقبل العربي وإمكان وجوده من الأصل. عن صحيفة الحياة.