بعد عشرين عاماً على تجربة الوحدة بين شطري اليمن، وانهيار النظام الديمقراطي في جنوب البلاد، تنفجر أزمة داخلية، لا تشبهها أية أزمة سبقت، في ظل ظروف عربية ودولية مساندة لغياب الديمقراطية، وحكم الفرد المستبد والانقسامات الداخلية. الدولة المركزية الحديثة في اليمن مهددة بالغياب منذ بدأت حرب صعدة في الشمال عام 2004 وتوالت الأزمات بعد تأجيل الانتخابات البرلمانية حتى عام 2011 باتفاق- خاطئ- بين الحكومة والمعارضة، إذ شكل غياب إجراء الانتخابات في موعدها عاملاً رئيسياً في تراكم الأخطاء، وغياب المحاسبة الشعبية واستشراء الفساد، وتنامي الحركات الاحتجاجية الداخلية استناداً الى قواعد اجتماعية أنهكها الفقر والجهل والتهميش وسلب الحقوق.
منذ تولي الرئيس علي عبدالله صالح الحكم عام 1978م، اعتمد سياسة التحالفات مع قوى اجتماعية وسياسية واسعة النفوذ والانتشار، في ادراك مسبق منه لضعف مؤسسات الدولة الحديثة والمركزية في اليمن وصعوبة السيطرة على الجغرافيا والسكان بدون عقد هذه التحالفات التي ركزت على قوتين رئيسيتين هما القبائل والتيار الإسلامي.
وقعت أول انتخابات برلمانية في اليمن عام 1993 في دولة الوحدة، ونتيجة للغلبة السكانية للشمال التي تبلغ خمسة أضعاف الجنوب، فقد تراجع تمثيل الحزب الاشتراكي في الحكم من المناصفة إلى شريك ثالث بعد حزب المؤتمر الشعبي الذي يمثل حكومة الشمال، والإسلاميين الذين تحالفوا مع الرئيس ضد من كانوا يعتبرونهم «كفرة وملحدين!!!»
ومع فقدان التوازن السريع هذا تفجرت الأوضاع في البلاد الى حرب أهلية عام 1994، من المهم جداً هنا التدقيق في تحالفات هذه الحرب ونتائجها التي أثرت على مستقبل البلاد ولا تزال تأثيراتها حتى الآن، فالحرب التي وقعت عام 94، لم تكن بين الشمال والجنوب أو بين طرف يريد الوحدة وآخر يريد الانفصال، وإنما هو تعبير عن الصراع الناتج عن موازين قوى اجتماعية وسياسية جديدة بعد انهيار نظام اليمن الجنوبي وانتهاج سياسة تقوم على الاحتكار للثروات وحكم الفرد من قبل النظام الحاكم في اليمن الشمالي.
في سياق خوض هذا الصراع، تمكن الرئيس صالح من عقد تحالفات مع التيارات الإسلامية المختلفة وعلى رأسها تلك العائدة من أفغانستان والذين استضافتهم اليمن، وأبرز قادتهم الروحيين الشيخ عبد المجيد الزنداني وطارق الفضلي. كذلك فقد تمكن الرئيس من كسب ولاء قوات الجنوب بعد الحرب الأهلية عام 86 وأبرزها ألوية في الجيش كان يقودها علي ناصر وعبدربه منصور.
بعد شهرين ونصف فقط تمكنت حكومة الشمال من حسم الحرب لصالحها، وبدأت معها مرحلة جديدة في سياسة الحكومة اليمنية، حملت معها سمات جديدة أهمّها تنكرّ الرئيس لتحالفاته السابقة المعقودة مع الإسلاميين والقبائل والقوى الاجتماعية في اليمن الجنوبي التي استمالها أبان الحرب الأهلية.
فقد دخلت تحالفات الحكم مرحلة تجاذب شديدة مع الإسلاميين وصلت حد القطيعة، وتعاملت الحكومة باستخفاف شديد مع كل تحالفاته القبلية السابقة، وسرح أعدادا واسعة من جيش اليمن الجنوبي واستولى المتنفذون في الحكم على أراض واسعة في عدن كما لو كانت غنائم حرب، ناهيك عن التمييز الفاضح في الخدمات والموازنات المحلية والوظائف لصالح الشمال.
كان من الطبيعي أن تثور احتجاجات شعبية واسعة بين فينة وأخرى منذ 1994- 2009، نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، وقد واجهت الحكومة هذه الاحتجاجات بقمع شديد زاد من استفزاز المواطنين ورفع سقف مطالبهم من مطالب حقوقية واقتصادية الى مطالب انفصالية!
أما الأزمة الأخرى التي تشهدها اليمن الآن، وتقوم الحكومة بمجابهتها منفردة بدون تحالفات قوية وجادة فهي ما يحدث في صعدة، هذه المحافظة الشمالية المتاخمة للحدود السعودية التي تشهد حربا متواصلة منذ 2004 وحتى يومنا.
الحرب في صعدة تفتح جروح اليمن في المناطق التي همّشها الحكم طويلا- في الجنوب- ولدى الفئات الاجتماعية شديدة الفقر والعوز والإهمال، ولذلك فلا عجب أن تنطوي الائتلافات والتحالفات الآن على عدم وقوف القوى المتضررة من الحكم مع النظام في حربه على الحوثيين.
فالتمرد الحوثي الشيعي، والقيادات الجنوبية من الحزب الاشتراكي، والقاعدة السّنية... هذه القوى الثلاث، على تباين مصالحها وإيديولوجياتها، تقف ضد النظام أو تتربص به، بانتظار ما ستسفر عنه الحرب.
الخاسر الوحيد من هذه الحرب هو الشعب اليمني... فغياب الدولة الحديثة، وواستمرار الصراعات المستعرة الداخلية، أدت الى تزايد نفوذ القبيلة وإحلالها محل الدولة المركزية. فهل ستبدد الحرب الداخلية حلم الحداثة والانعتاق من الفقر والوحدة القائمة على العدالة والتنمية الشاملة؟ هذا ما لا نرجوه أبداً لليمن الشقيق في ظل متغيرات السياسات العربية المراهنة.