بعد 1994م تفاقمت مؤشرات الظلم الذي لحق بالسكان في اليمن عامة والمحافظات الجنوبية خاصة, وكان للموظفين مدنيين وعسكريين النصيب الأوفر شعورا بهذا الظلم نتيجة للإقصاء الذي مارسه علي صالح ضد الجنوبيين. وبدأت المطالب بسيطة تتحدث عن الحق في الوظيفة والمرتب, وبالتأكيد ينطبق هذا على القيادات السياسية والاجتماعية التي وجدت نفسها خارج الشراكة في السلطة التي تم تقاسمها مع الوحدة. ولم تمض سوى سنوات حتى تحولت المشكلة إلى ما سمي لاحقا بالمشكلة الجنوبية, مشكلة سياسية وبغباء من سلطة صالح تحولت من سياسية إلى مشكلة اجتماعية وهي اليوم وطنية. لن نخوض في تفاصيل ما حدث لأن الذي يهمنا في هذا المقام مناقشة مطالبة البعض بالمناصفة, وهي فكرة المناصفة التي قادت حرب 1994. صحيح إن هناك من يرى أن امتلاك السلطة دليل النجاح أو الإنصاف. وقد وصلت قوى اجتماعية, فردية وأسرية وعشائرية وكذلك تيارات فكرية ومؤسسات ومجاميع عسكرية إلى هدفها في الوصول للسلطة, واستخدم معظمهم وسائل غير مشروعة, وكان منطق القوة لا قوة المنطق السلاح الذي حسم المعركة لصالح طالبي السلطة تحت مبررات دينية ووطنية وقومية وتقدمية. ونذكر هنا بالذات التيارات الفكرية التي وصلت إلى هدفها في السلطة, آخرها التيار الإسلامي في السودان, حين تغلبت الرصاصة على الكلمة وتغلب الجنرال على المفكر,رأينا ماذا حل بالسودان. ومن قبل وصل التيار القومي بشقيه الناصري والبعثي للسلطة, فماذا كانت النتيجة, رأينا أخر النماذج, القذافي وبشار.ووصل التيار اليساري أيضا إلى السلطة, وكانت المحصلة مخيبة للآمال لأن الجميع كان يعتقد ان الوصول الى السلطة سوف يصنع نجاحا. امتلاك السلطة لا يصنع نجاحا, وان تم فهو أمر مؤقت لا يصمد أمام التحديات.ولقد رأينا غالبية الشعوب في القارات القديمة والحديثة تمتلك مكونات سلطة,غالبيتها فشلت فشلا ذريعا بعد الاستقلال بعد ان اعتقدت ان امتلاك السلطة بعد الاستعمار يعني النجاح التلقائي. لقد فشلت شعوبنا وشعوب كثيرة في العالم خاصة التي تحولت من الاستعمار السفري الخارجي (البريطاني والفرنسي) إلى الاستعمار المحلي العسكري (حكم العسكر) أو الأسري او الاستعمار المركب العسكري الأسري الذي عايشناه في اليمن وليبيا ومصر وسوريا وغيرها. السلطة العسكرية (حكم العسكريين) في جميع دول العالم أوصلت بلدانها إلى الإفلاس, ويستحيل أن تجد بلدا حكمه العسكريون وصل إلى بر الأمان حتى في الدول الأوروبية (فرنكو اسبانيا حول بلاده إلى بلاد الطماطم وتصدير عمال البناء وخلال عشرين عام من الحكم المدني 1975-1995 تحولت اسبانيا الى دولة ضمن المجموعة الأوروبية الأولى), كذا البرازيل والارجنتين وتشيلي جنرالاتها أوصلوها إلى بلدان مفلسة عاجزة عن حمل مئات المليارات من الديون الخارجية, وبعد سقوط الأنظمة العسكرية تحولت تلك الدول بعد سنوات الى نماذج نجاح, احتلت البرازيل قمة هذا النجاح. تركيا مثل آخر على تدخل المؤسسة العسكرية في الحكم جعلها متسولا دوليا للقروض, وخلال عشرة أعوام من الحكم المدني لحزب العدالة والتنمية تركيا اليوم الأفضل نموا في اوروبا. ان المشاركة في السلطة او المناصفة التي يرغب البعض حجز مقعد متقدم لضمان مستقبل أفضل لمنطقة او جماعة أو أسرة هي حالة هوس مرضي عانا منه السابقون ووقعوا في هذا الشرك الذي أوردهم المزالق والمهالك أيضا. يعتقد البعض انه لو استأثرت منطقة أو فئة بمراكز السلطة يعني إنصاف لها. وترى مجاميع سياسية واجتماعية انه لو آل إليها سلطة آل صالح سيكون ذلك دليل على انه قد أعطى لها حقها العادل. وهناك إحساس أن بعض السياسيين لو كانت نتائج1994 عكسية وكان موقعه من السلطة والثروة هو موقع علي صالح وأسرته لكان رأيه في القضية الشمالية رأي آخر. الأخوة الذين يريدون المناصفة في المجلس الوطني الذي أوكلت له مهمة انجاز أهداف الثورة, لست ادري منطق عادل استندوا إليه هل للإنسان قيمة لديهم, هل للمسؤولية الملقاة على عاتق الثوار قيمة يجب مراعاتها او احترامها . لقد تكرر الحديث عن ان المجلس الوطني ليس سلطة بل قوة تتحمل مسؤولية انجاز الثورة. هل الذين يريدون النصف لديهم نفس المنطق لتحمل نصف أعباء الثورة. ليس مطلوبا منهم خاصة الذين في الخارج سوى إحضار علي صالح كونه قريبا منهم مكبلا للمحاكمة وبذلك يستحقون نصف المقاعد مقابل مساهمتهم الملموسة في الثورة, وليس مطلوبا منهم تقديم أرواحهم قرابين للثورة كما يفعل الثوار في الداخل, معذرة لهذه المداعبة الثقيلة, دعونا نعود لموضوعنا. ليس الحصول على السلطة سيكون الحل العادل للمشكلة الجنوبية, ألم يكن في الجنوب سلطة قبل الوحدة وكان هناك سلطات إمارات قبل الاستقلال؟ فهل صنع من ذلك سويسرا ام مملكة السويد:؟ وقضية صعدة لا تختلف عن منطق المشكلة الجنوبية وان كانت تطرح بصيغة أكثر عمومية. لقد حكم آل حميد الدين الأقرب من منطق صعدة قرابة نصف قرن, فما الذي قدموه لصعدة؟ وحكم آل صالح وآل حميد الدين وهم من شمال الشمال قرابة مئة عام, قرن كامل, ماذا قدما لشمال الشمال عامة أو حاشد خاصة:؟ واحمد الله أن أبناء جنوب الشمال في تعز واب والحديدة لم يصابوا بعقدة مشكلة جنوب الشمال, صبروا قرنا كاملا يحلمون ويبحثون ويعملون من اجل قيام الدولة اليمنية المدنية الحديثة التي تتسع لجميع اليمنيين, لجميع المناطق والأحزاب والجماعات والتيارات, بل تتسع لغير اليمنيين في المواطنة ,تتسع للمهاجر من الصومال تمنحه الكرامة كما تمنح بريطانيا المهاجر اليمني كرامته هناك. يا سادة من العيب على سياسيين ومثقفين ومفكرين أن يتحولوا إلى صغار يرون في امتلاك السلطة نهاية للتاريخ. وليس من التاريخ في شي من يرى اليمن من خلال نظام علي صالح وأسرته. دعونا نرفع شعار الدولة أو الموت بدلا عن الشعارات الجزئية, الجمهورية أو الموت والوحدة أو الموت لأنه من دون قيام دولة حقيقة نحن نحرث في بحر,في الدولة يأتي القادة ويذهبون, تأتي الأحزاب وتذهب وتأتي الجماعات وتذهب,تتغير,تتبدل,تتحول وتبقى قيم الدولة جامعة حامية لحقوق الجميع. صحيح إن الوصول إلى السلطة أسهل ولها جيوش تعشقها لكن النهاية أسرع وافزع, والوصول إلى الدولة طريق صعب وشاق ولا ينظم في سلكه سوى القليل من الرجال لكنه الأضمن والأدوم والأكثر أمنا للجميع, للجنوب وللشمال, لصعدة ولسقطرى أيضا.
عرفت اليمن كل السلطات, الأسرية والعشائرية والعسكرية والمناطقية والدينية والقومية والأممية, لكنها لم تعرف الدولة حتى الآن. فهل نحن على استعداد ان نضحي في سبيل بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة ليكون لليمني ولليمن مكانة كريمة تحت الشمس. نعم يجب أن نقطع هذا الخلط بين بناء السلطة و بناء الدولة, هذه الثورة لم تخرج لبناء سلطة مهما كان شكلها وحسن نيتها.الثورة قامت من اجل دولة لليمنيين في كل مكان . ومن العيب أيضا أن يفكر البعض في حرمان اليمنيين من حقهم في الانتماء لليمن الطبيعي أو انه حق قابل للمساواة, وهو حق لم يحرمه الاستعمار البريطاني أبناء المحافظات الشمالية, ولهذا غادر جدي لأبي وأخوه وكذلك أبي مهاجرين إلى بريطانيا وأمريكا كيمنيين من يافع. الثورة قامت لبناء دولة تفطم الطامعين والطامحين في السلطة والثروة عبر طرق غير مشروعة, مشكلتنا وغيرنا في العالم أن هناك لصوصا يتقنون النوايا الخبيثة لممارسات غير مشروعة في السلطة والثروة, تتركهم الشعوب يعبثون ويمارسون لصوصيتهم ولا تصحوا هذه الشعوب إلا بعد فوات الأوان. وليس هناك من عاصم من هذا سوى قيام الدولة بمعناها الذي يتعدى الأفراد والجماعات والأحزاب, وهو أمر في غاية الصعوبة لان بناء الدول ليس بالأمر السهل ولا تحققها الأماني. فهناك دول إقليمية كإيران وتركيا مثلا وحتى الصين وغيرها كثير لازالت بين نصف دولة او ثلاثة أرباع الدولة, فلو ذهبت سلطة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين لتغير وضع الصين رأسا على عقب, وهذا ليس من صفات الدولة بمعنى الدولة الحقيقية الكاملة (تتغير السلطات في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها دون حدوث اهتزازات) وباختصار قامت الثورة لإسقاط نظام عائلي فاسد فاشل وليس لإسقاط وطن لم يغب يوما ما عن خارطة الزمان والمكان عبر آلاف السنين, وليس من المنطق والعدل كلما ظهر نظام سياسي فاسد اخذ المظلومون الغاضبون المقص للانتقام من الوطن ظنا منهم ان لكل حق تفصيل ثوب على مقاسه,فأي وطن على كوكبنا سيبقى وطن لو ساد هذا التفكير عالمنا.