وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر كان يقول: " بعض الشعوب تكون "منحوسة" وعاثرة الحظ، تماماً كبعض الأفراد المنكودين الذين يلاحقهم سوء الطالع كظلهم".. هذا القول قد يفسر ارتباط المأساة بالإنسان اليمني منذ حادثة الفأر الذي هدم سده الكبير، غير أني لا أقول إ، اليمن منحوس تماماُ، وإلا ما ارتبطت به صفة السعيد ذات يوم، يمكن القول إن بعض الأجيال اليمنية تكون منحوسة طبعاً إذا ما تعثرت أشواقها وطموحاتها في الحياة والبناء برجال دولة أو دين، يجري النحس على ألسنتهم وبين أيديهم أينما اتجهوا. بعض الناس في القرى اليمنية كانوا إذا ما شعروا أن النحس يلاحق أحد أبنائهم علقوا له حذاء أو قطعة منه لإبعاد النحس عنه.. وهذه طريقة يتعذر تطبيقها، فلا يليق بوطن نحبه أو مواطن نحترمه تعليق مثل هذه الأشياء عليه، هناك طريقة أخرى تأتي من المثل الشهير "المنحوس منحوس ولو علقوا له فانوس"، لكنها هي الأخرى مستحيلة لسببين: الأول المثل نفسه يقول "منحوس منحوس"، وثانياً لأن الفوانيس في بلادنا مشغولة بتغطية "عورة" وزارة الكهرباء التي لاحقها النحس حتى وسط البحر، وأغرق عليها سفينة كانت محملة بمعدات لمحطة مأرب الغازية ، كما صرح بذلك الوزير عوض السقطري لنبيل الصوفي قبل أسابيع.
لا فوانيس يمكن تعليقها لدحر النحس، ولا أحذية ايضاً، هذا من باب الهذر ليس إلا، لأن أغلب النحس المخيم على هذه البلاد يتغذى على الفساد، ولو توافرت الإرادة السياسية لدى النظام الحاكم، لكنا شاهدنا مفسدين "معلقين" بجرائمهم في أقفاص المحاكم وأمام القضاء، مثل هذا العمل سيكون أفضل لنا من أي شيء آخر يساعدنا على التخلص من هذا النحس المقيم، الذي يلاحق اليمنيين بالحروب الداخلية، والأزمات الاقتصادية والخلافات السياسية التي تعصف بمستقبل البلاد، هذه البلاد تستحق ما هو أفضل من رفيق النحس، ويستحق اليمنيون نصيباً من اسم بلادهم القديم: اليمن السعيد.
تعليق المفسدين لطرد النحس اقتراح جيد غير أن تطبيقه في واقع الحياة السياسية يظل مجرد خطب وتصريحات فقط، لكن هذا لا يعني أنه الاقتراح الوحيد، هذا النحس يمكن دحره، والتغلب عليه، وفي تاريخ الشعوب ما يمكن التفاؤل به، أو بناء الأمل عليه، فالتقارير التي تتحدث عن القلق من تفكك الدولة، أو انهيار النظام، تعني أننا وصلنا إلى وضع شديد الحساسية، هذا الوضع يمكن أو يؤسس لما هو عكس ذلك، ففي مثل هذه الأوقات الحرجة في تاريخ الشعوب، يحدث أن ينبثق الأمل من هنا أو هناك، فتلتف حوله كل مكونات الشعب، وتبدأ بذور الخير تشق طريقها في مختلف أرجاء البلاد.
نشير إلى النحس، ونتحدث عن الأمل، ويمكن أن نكمل بما يدخل التفاؤل إلى القارئ، فحتى مع دوي المدافع في صعدة يمكن أن تبادر قيادات المشترك واللقاء الوطني وحتى التحالف الوطني، ويذهبا مع المؤتمر الشعبي العام إلى تفاهمات أولية على وقف الحرب في صعدة أولاً، وهذا ممكن، لأن الجماعة في المشترك يحتاجون إلى التأكيد على حضورهم في الساحة بعمل حقيقي مشترك ينهي إحدى أهم أزمات البلاد ، حتى وإن أدى ذلك لتقديم بعض التنازلات للحزب الحاكم . من جهة ثانية فإن الحزب الحاكم، وتحديداً رئيس البلاد بحاجة إلى إنهاء الحرب التي تمثل له صداعاً مؤرقاً ، رغم الحديث عن مثالية هذه الحرب بالنسبة للنظام الحاكم الذي يجد الدعم الخارجي والعون الداخلي للاستمرار في انهاء التمرد الحوثي بالحسم العسكري.
هذا العمل ليس مستحيلاً، والرئيس ألمح إلى ذلك في خطابه الأخير بمناسبة ذكرى ثورة سبتمبر، بل يمكن القول إ، هذا الحل لديه من ممكنات الواقع ما يجعله قابلاً للنجاح، ويبشر لما بعده، أما لماذا هذا التفاؤل ، وقد بدأنا بالنحس من أول كلمة في هذه المقالة، فلأنه سيضع جماعة الحوثي في موقف يصعب معه رفض ما سيشكل إجماعاً وطنياً، ثم إن الحل هذه المرة سيأتي من الداخل، وهو ما سيخفف عليهم التنازل عما يعتقدونه مقدساً أمام أنصارهم. أضف إلى ذلك أن طرفي الحرب يبديان باستمرار الرغبة لمغادرة المتاريس والمدرعات إلى غرف الحوار والاجتماعات، خصوصاً بعد أن تأكد لكل طرف أن مسالة الحسم من قبل الدولة غير ممكنة تماماً، كما أن فكرة انتصار الحوثي أصعب بكثير.
حسناً.. سيكون هناك تخوف من تكرار المآلات التي انتهت إليها الحروب الخمس السابقة، وهنا يأتي دور وجود قادة الأحزاب المعارضة وأبرز الأسماء في اللقاء الوطني في الاتفاقات المنهية لحرب صعدة، وإن غاب النحس عن مثل هذا الرجاء فستحظى هذه الاتفاقيات بشرعية كبيرة يمكن التعويل عليها لإنهاء الحرب والفتنة. وسيكون من الصعب على أي من الأطراف الرجوع عنها إلى الأوضاع التي سادت فترة الحرب أو قبلها.. لكن الأهم من هذا أن تعمل الحكومة جهدها في إعمار صعدة، وكسب قلوب الناس هناك بالمشاريع التنموية الكبيرة التي يلمسها المواطن، ويستفيد منها، هو وأبناؤه وعائلته. وتستطيع الحكومة في هذا أن تستفيد من جيرانها الخليجيين الذين لا يرغبون في استمرار هذه المواجهات وتحمل تداعياتها.
هذا ليس كل شيء، ونحن نكتب عما يأتي بالسعد ويطرد النحس، ويمكننا أن نذهب بالتفاؤل إلى أبعد من ذلك، فاتفاق من هذا النوع سيمهد لزحزحة الكثير من المواقف التي يتمسك بها كل طرف في مواجهة الطرف الآخر، أقصد بين فرقاء العمل السياسي في هذه البلاد، ويمكن لهم بالتالي العمل على دحر النحس من منطقة لأخرى، وصولاً إلى مشكلات الحراك في الجنوب، ومكافحة الإرهاب، والأزمة الاقتصادية..
أكتب هذا الكلام وأنا خائف من سوء الطالع الذي تحدث عنه كيسنجر، بحيث يصعب على المرء في بلادنا التمسك بأية آمال من هذا النوع، لكننا لا نزال في أيام عيد، والمرء يتفاءل بالخير ويقدم بين يدي هذا التفاؤل ما يعتقد أنه يأتي له ولشعبه بالسعد والخير. ومن يدري، قد يسمع الله دعاء المؤمنين في رمضان، ويفكنا من هذا النحس ونخلص.