وصل الرئيس علي عبدالله صالح متأخراً وبدأ يشن الحرب. ستكون أول حروبه التي يخوضها من أجل الماضي لا المستقبل ولن يستطيع أن يلبسها أي قيمة أخرى. هذا ليس توقيتاً ملائماً لكنه اضطراري بالتأكيد لصالح كي يمضي في مواصلة شن حروب صغيرة على مناوئيه الذين يتمنى أن يعزلهم عن بعض ويشتت مجهوداتهم ليواجه كل واحد منهم على انفراد في نهاية المطاف. فهو الآن في سباق مع الوقت لقطع الطريق على مجلس الأمن الدولي قبل أن يعقد اجتماعه هذا الأسبوع لإصدار قرار يتوقع أن يلزمه بتطبيق الخطة الخليجية لتنحيته ونقل السلطة إلى نائبه. سيدفع صالح بكل جهوده نحو تفجير الموقف عسكرياً لإقناع مجلس الأمن أن ما يجري في البلاد هو صراع محض بين مجموعات متناحرة أملاً منه في حرف مضمون القرار من طلب صريح إليه بنقل السلطة إلى دعوة الأطراف المتحاربة لوقف العنف. لن يحصل صالح على ما يريده لأن القرار قد صيغ وتسلمت الدول الأعضاء نصه وأفضل ما سيحصل عليه أن يخلو القرار من عقوبات ضد نظامه لكنه سيواصل حروبه متخففاً من الرقابة الدولية التي كان يحسب تأثيرها من قبل، فالقرار سيعني له بداية الفصل العملي لإزاحته من السلطة. تلك الحروب هي ما يضمن لصالح نهاية متساوية مع خصومه طبقاً لرؤية سوداوية تحكم السيطرة على قراراته وتفكيره، تغذيها نفسية إجرامية وتاريخ طويل من البشاعات، فلو لم يواصل البقاء في السلطة سيكون أهون على تفكير هذه النفسية أن يدمر كل ما سيؤول إلى نظام الحكم الذي سيعقبه من بلاد متماسكة وجيش وسلاح وعلاقات اجتماعية وسياسية من شأنها المساعدة في تسريع إعادة البناء لاحقا. إنه منطق الثأر الذي يسيطر على تفكير الرجل الآن وسيلازمه لاحقاً. وهو قد دخل في أجواء قرار مجلس الأمن قبل صدروه، وعبر بوضوح عن ذلك لدى اجتماعه بقادة في الجيش والأمن يوم الأحد الماضي حين هدد ضمنياً بالحرب واستعرض دورات الصراع العسكرية السابقة ليشبهها بما يحدث الآن من انتفاضة شعبية ضده. قال صالح لقادة جيشه إنه اجتمع بهم ليطلعهم على تطورات الوضع و«نتداول الرأي وما سوف نخرج به كمؤسسة عسكرية وأمنية تتحمل المسؤولية لما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا للوطن». وجاء تهديده واضحاً وهو يضمنه في قوله «لقد صبرنا الكثير (..) هناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه سواء كانوا في القوات المسلحة أو رجال الأمن البواسل.. سيدافعون عن الثورة والجمهورية والوحدة والحرية والديمقراطية وسوف يواجهونهم بمسؤولية». ثم لم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى بدأت القوات النظامية شن هجوم غير مسبوق على حي الحصبة ومقر قيادة الفرقة الأولى مدرعة التي التحقت بالانتفاضة الشعبية في مارس الماضي وتعهدت بحماية المحتجين. دلً الهجوم بما اشتمل عليه من كثافة نيران لم تستخدم من قبل على أن لا هدف له غير جر الأطراف المستهدفة إلى حلقة العنف النهائية وإرسال مضمون الرسالة التدميرية التي تلعب داخل عقل صالح إلى الأطراف المعنية مشفوعة ببرهان من النار واللهب. لكن ما هو ثابت الآن أن صالح وصل متأخراً وفاته الوقت للاستمرار في المحافظة على مهادنة موقف المجتمع الدولي له ولن تستطيع الحروب التي شرع في إشعالها التأثير كثيراً في المواقف الدولية مهما بدا أن في المشهد اليمني قوى تتصارع بالفعل، إذ أن مشاهد القتل الجماعي للمحتجين العزل على مدى تسعة أشهر قد وصلت أولاً إلى العالم ورسخت الاعتقاد بأن جهة حاكمة يتزعمها صالح هي من يستخدم القوة العارية لقمع المعارضين. بغباء، استهلك النظام فرصته في تضليل المجتمع الدولي من خلال حملات القمع ضد المحتجين العزل منذ فبراير الماضي وحين نفدت فرصته عاد محاولاً تمديدها بشن الحروب المحدودة وقصيرة الأمد لتدمير قوى الممانعة القوية دون أن تؤلب ضده الرأي العام المحلي والدولي دفعة واحدة. هذا ليس مجدياً الآن بعد قتل مئات المحتجين وإصابة الآلاف ولن ينال النظام الفوائد التي يرجوها من هذه الحروب، فكل ما سيجنيه هو إضعاف تلك القوى وتدمير قوتها المادية كعقاب انتقامي مجرد إلى جانب أنه سيصير قوة كسائر تلك القوى لا رئيس مهاباً يحارب من أجل إعادة متمردين على شرعية النظام العام إلى نطاق الدولة كما كان يغطي على حروبه السابقة. وأسوأ ما في هذه الحرب لصالح أنها مقطوعة الصلة بالمستقبل سواء المستقبل العام أو مستقبله هو إذ أنه يحارب بأثر رجعي للانتقام فقط من الأطراف العسكرية والقبلية التي خذلته والتحقت بانتفاضة المحتجين متخلية عن تحالفاتها التاريخية معه. ففي كل حروبه السابقة، كان صالح يقنع حلفاءه ويدلس على قسم كبير من العوام بأنه يحارب من أجل مستقبلهم ولم يكن يعدم الحيلة أو المبرر للتدليل على ما يفعله غير أن النشوة التي كانت تعتريه عقب كل حرب فيجحد إسناد العامة له ويتنكر لأدوار حلفائه ويجور في تقسيم التركة، نبذته تدريجياً من قلوب كل هؤلاء. وكل من حارب لاستعادة ماض شخصي عبر التاريخ، عاد منهزماً أو قُضي عليه عند منتصف الرحلة. الحرب للماضي ومجرد الانتقام هي حرب منعدمة البشارة أيضاً ولا أفق لها. إنها تشبه كثيراً قضاء فترة طويلة في التحسر والندم عند شخص لا يجد ناراً يطلقها على أعدائه. في عقل صالح الآن هناك حرب عاصفة أيضاً وهو يلمس الموقف الدولي يضيق تباعاً بفكرة أن في اليمن رجلاً مازال جديراً بالمعاملة كرئيس دولة. والدعم الدولي كان آخر الموانع التي ظن أنها ستعصمه من السقوط طويلا. وهذا الأمر تحديداً لا يطيقه الرجل على الإطلاق: أن يصير رئيساً مهملاً وممقوتاً لدى القوى العالمية الكبرى. فمكان رئيس كان شديد العناية بكسب الرضا الدولي ومواقف العواصم الكبرى، صار سلوك صالح في التعامل مع المجتمع الدولي يبعث على الاشمئزاز وهو يعبث مع لاعبي الأدوار الرئيسة في السياسة العالمية ويحاول بألاعيبه الصغيرة خداع العالم. حتى لقد بدا خلال الأيام الأخيرة أنه يكتسب العضوية تدريجياً في نادي الزعماء المنبوذين لدى الدول الأوروبية التي تتبنى سياسات شجاعة وقاطعة بشأن الديمقراطية كألمانيا وفرنساً لسوء سلوكهم الديمقراطي والإفراط في قمع المعارضين كما هو حال روبرت موجابي وبشار الأسد وكثيرين ممن سقطوا بعد تطبيق هذا الإجراء بحقهم. يسلط هذا التطور الضوء على سبب إضافي يدفع صالح نحو الذهاب إلى الحرب: المضي قدماً دون بوصلة. وبتعبير آخر، الهروب إلى الأمام للتخلص من ضغط اللحظة فقط بغية الخروج إلى وضع آخر حتى لو جرد فيه من السلطة والأمن والمصير المطمئن. إنها المغامرة التي تبدو لشخص ما محاصر أفضل الحلول مهما ترتب عليها من نتائج. لذلك ينبغي للقوى العسكرية والقبلية التي صارت جزءاً من الانتفاضة الشعبية أن تتفادى الاستجابة للحرب التي يقرع النظام طبولها بأي ثمن ومهما كان مبلغ الاستفزاز عدا عن توفير الحماية للمحتجين. إذ أن النظام يفعل ذلك من قبيل التصرف بيأس لعلمه أنه طرف خاسر لامحالة سواء بقرار مجلس الأمن الدولي أو بالنهاية التي لن يتراجع أنصار الانتفاضة إيصاله إليها. أما الجيش الملتحق بالانتفاضة والقوى القبلية فهما في فسحة كبيرة مقارنة بالنظام وبإمكانهما التمسك بسياسة ضبط النفس كلما ازدادت المؤشرات على تداعي الحكم الحالي. ما يفعله المحتجون حالياً من تسيير مظاهرات يومية تتعرض لقمع فظيع هو أفضل السبل لمواكبة مداولات مجلس الأمن بشأن القرار المتوقع صدوره.