لكي يثبت الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أنه لا يزال موجوداً في نواة التاريخ المعاصر أحضر معه كتاباً جديداً لمؤلف أميركي وعرضه على ملايين المشاهدين. كان واضحاً من العلامة الموضوعة في الكتاب، في لقائه الأخير على قناة الجزيرة، أن هيكل لم يقرأ فيه الشيء الكثير. لكن هيكل كان معنياً بإيصال رسالة أخرى. وفيما سوى العلامة الموضوعة بأناقة في الكتاب فإن هيكل لم يقُل تلك الأمور التي تنتمي للتاريخ المعاصر. فور رحيل مبارك قال هيكل، في لقاء صحفي مع فهمي هويدي، إنه ليس مستعداً للعب أي دور سياسي في المستقبل، لأنه ينتمي إلى أجيال سابقة والمستقبل من حق أبنائه. لكنه تسلل مرة أخرى إلى المستقبل. وفيما يبدو فقد عبث هيكل في بعض ممتلكات أبناء المستقبل بطريقة القدامى الفظة والأبوية. عاش هيكل بحقد شخصي ضد حسني مبارك. لقد وصف مبارك بالبقرة الضاحكة (لافاج كيري)، بحسب ما نقله عنه روبرت فيسك في «الإندبندنت» قبل خمسة أعوام. وعندما سقط نظام مبارك قال هيكل: لقد أكمل الشعب المصري عبوره إلى عصر الشعوب الحرّة. بعد ذلك لم يحفل هيكل كثيراً بفكرة الثورة العربية ولا بعبورها. لم يشرح للجماهير: ما هي الطريقة المثلى لكي تبدو فعلاً شعوباً متناغمة مع مجرة الشعوب الحرة. وبدا وكأن هيكل يحتفي بثورة مصر التي أسقطت مبارك، لا تلك التي عبرت إلى عصر الشعوب الحرّة. كان البرادعي، أحد أهم ملهمي قادة الثورة المصرية، يقول: إنها ثورة ضد نظام استمر 58 عاماً. يقصد: نظام يوليو والضباط الأحرار، الذي مثل فيه هيكل أخطر مدافع قوته الناعمة، حتى نظام مبارك. لا يوجد ما يمنع تلك الفرضية التي تقول إن هيكل انتابه شعور عميق بالقلق، إذا تعاملنا مع مقولة البرادعي بانتباه، من ثورة بدت وكأنها تعمل بشكل آلي على إزاحته إلى حقل الأعداء التاريخيين. أرّخ، في أواخر الستينات، الشاعر المصري الراحل نجيب سرور في خطاطة ناصعة لزمن هيكل: كان مذياع المقهى يذيع كوكتيل نصب، من مقال لهيكل، بينما نحن في البلية نضحك..
يميل هيكل إلى استخدام تعبير«ما يسمى بالربيع العربي». وبالطبع يستثني مصر من الحكاية، لأن مصر أسقطت خصمه مبارك، الذي أخرجه من السجن عقب موت السادات ثم أوعز لإعلامه بتذكير هيكل بهذا المعروف طيلة سني حكمه. حتى هذه الساعة يوجد أكثر من عشرين كتاباً يحمل اسم «الربيع العربي» في أوروبا. استخدمت مجلة «دير شبيغل» تعبير «الساعة العربية صفر». لكن هيكل، الذي يقرأ الكتب الأجنبية كثيراً ويسردها علينا بشغف كما لو كانت مسودات من العهد القديم يجدر تلاوتها على خراف بني إسرائيل الضالة، يقرّر أن يختلف مع الأوروبيين في موضوعة الربيع العربي. وهو في الغالب لا يختلف مع الكتابات الأوروبية والأميركية كثيراً. حتى إنه وقع مؤخراً في «مصيبة» صحفية عندما صدّق، بدرجة عجيبة من التسليم، رواية لصحيفة إنجليزية تقول إن الاستخبارات الأميركية استأجرت شقّة سكنية جوار سكن أسامة بن لادن في باكستان منذ 2007، وأنها عينت له طبيباً خاصاً وأحضرت جهاز غسيل كلوي إلى منزله! سرد هيكل القصة الخبرية، شديدة الهشاشة، دون أن يكترث لشيء. بالرغم من أن هيكل، الذي وصفته «نيويورك تايمز»، 1971 بأنه أعظم صحفي على وجه الأرض، لا يحتاج لأي دروس جديدة في المهنية والمنهجية. في حوار أخير مع صحيفة الأهرام قال هيكل إن المقاومة الليبية - يقصد التي تقف إلى جوار معمر القذافي- ستستدعي كل ليبيا لمواجهة الغزو. وعندما تذكر الثوار القادمين من بني غازي تحسّر هيكل بعمق، ثم أردف: ليبيا ستتفكك إلى دول صغيرة. انتهى الزمن الافتراضي لنظام العقيد، الذي كان يكن احتراماً عميقاً لهيكل، وبقيت ليبيا مستقلة وموحدة وديموقراطية. انحدر المفكر الكبير إلى درجة منجّم، وفشلت قداحه في الإحاطة بالوقائع. لكنه لا يزال مصرّاً على أن يضع علامات جديدة في تلك الكتب التي تصله بالبريد من أميركا، ويبتكر ذرائع فاعلة تمكنه من عرضها على المشاهدين العرب من الجهة التي تتدلى منها العلامة: إنني هُنا، في عمق التاريخ أسمع وأرى. حتى إنه في اللقاء الأخير مع كريشان تحدث عن التحولات الاقتصادية الكبيرة، زمن الاقتصاد المحرر عن تدخل الدولة، بطريقة مفكّكة وهشّة وكما لو كان لا يزال قادراً على ملاحقة التغيرات العالمية الضوئية. فهو مثلاً يقول إن العالم يخشى من المخزون السكاني اليمني. في الوقت نفسه يتحدث عن هروب الأموال الأوروبية إلى آسيا (الهند، أندونيسيا، الصين). هيكل نسي أمراً حاسماً في جلب تلك الأموال إلى دول آسيا: إنه المخزون السكاني الهائل، الذي لم يفزع العالم بل جلب أمواله. تناقض هيكل مع نفسه في ثلاث دقائق. ذكّره المفكر اليمني المرموق د. عمر عبد العزيز بهذا التناقض «إن العمق السكاني اليمني معادل حاسم للتنمية الشاملة لا العكس، ولنا في الصين والهند كل العبرة، حيث تحول العمق البشري في هذين البلدين إلى عامل نماء، يشهد له القاصي والداني، فيما أصبحت أعماقنا الديمغرافية العربية سبباً للفقر، والشاهد على ذلك مصر واليمن..». هيكل لا يجهل هذه الحقيقة، لكنه فشل في تحليلها اقتصادياً، رغم إطلالته الاقتصادية الأخيرة التي قال من خلالها أموراً عجيبة في الاقتصاد. ذلك أن هذه الحقيقة الاقتصادية موضوع ينتمي إلى الاقتصاد الحديث، اقتصاد ما بعد 1980 ووصول ريغان إلى السلطة، بينما ينتمي هيكل إلى زمن سحيق. وهذا ليس اكتشافاً إذ لا يوجد تفسير لإشارة هيكل إلى «المخزون السكاني اليمني» باعتباره خطراً عالمياً سوى أن هيكل فشل أخيراً في فهم ما الذي يجري في العالم. فهو يرى أن التحول الاقتصادي العالمي حدث عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. في حين تلمع دراسة شديدة الذكاء للحائز على نوبل في الاقتصاد «بروف. بول كروغمان» بالقول: إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان سببه الاقتصاد الحُر البعيد عن سيطرة الدولة، عبر التجارب الباهرة في كوريا الجنوبية وهونغ كونغ بما قدمته من أمثلة عملية متفوقة زعزعت الاعتقاد في سلامة ومعقولية المشروع الشيوعي ونظرياته، تحديداً في مناطق نفوذ المشروع الشيوعي. عندما نسترجع ما قاله هيكل، في لقائه الأخير، على قناة الجزيرة نصاب بالدوار: إن هيكل قال رأياً في الاقتصاد هو في الواقع عكس وقائع الاقتصاد تماماً. وفيما يبدو لم يكن الرأي الاقتصادي لهيكل هو الوحيد الذي جاء مقلوباً. حتى موقفه السياسي بدا كذلك، بحذافيره.
يعتقد نصر طه مصطفى أن آخر عهد هيكل بالمشهد اليمني مقالة يتيمة نشرها في كتابه «المقالات اليابانية»، 1994. حتى هذه المقالة، بحسب نصر، كانت هشّة وسطحية. هيكل يستطيع أن يحدثك كثيراً عن اليمن. سيقول لك إنه ركب في طائرة عسكرية وطار في سمائها في حرب الخمس سنوات. وستكون هذه الرحلة كافية لكي يحدثك هيكل عن حقيقة اليمن التي لن يغيرها هيكل لقرون من الزمن. وستستمر الفكرة متماسكة في عقل هيكل. حتى بعد مشواره بالطائرة فوق سماء حجّة بنصف قرن فإن هيكل لن يكف عن الاعتقاد أنه يعلم تماماً ما الذي يعنيه اليمن. إنه قبيلة كبيرة ذات مخزون بشري مفجع تريد أن تتحول إلى دولة. صعد دارون إلى السفينة، وسافر في البحر. لكنه نزل بعد رحلة طويلة إلى الأرض واستمر في البحث عن الحقائق «أصل الإنسان، النشوء والارتقاء» التي قدحت شرارتها في السفينة. لم يقل إن مشواره على السفينة لخص العالم، بل طرح الأسئلة. لكن هيكل لا يزال يحلق، منذ نصف قرن، على متن طائرة عسكرية فوق سماء حجّة، يسرد الإجابات الركيكة بلا أسئلة. إنه لا يزال يرى الأشياء ذاتها. لكن المهول في الأمور هو أن هيكل سيرويها لك بطريقة شديدة الفهلوة حتى توشك أن تقول: يا له من كلام مهم. ذات مرّة كان هيكل يحلل شخصية حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين. قال أشياء كثيرة عن معرفته الشخصية اللصيقة بالبنا. المعرفة التي، يقول، أهلته لتقديم حكم موضوعي حول شخصية البنا. يطلب منك هيكل منك أن تأخذ كلامه على محمل الجد، حتى وهو يقول لك في نهاية سرديته إنه لم يلتقِ حسن البنا سوى مرة واحدة في حياته لمدة عشر دقائق في مكتب .. إلخ. إن هيكل لا يحتاج لأكثر من عشر دقائق لكي «يصبّن» العالم. هكذا أشاح بيده، كما لو كان يطرد الذباب، بتعبير الصحفي عبد الله العزاني، عندما سئل عن اليمن: قبيلة تريد أن تتحول إلى دولة. ماذا تريدون من هيكل أن يقول أكثر من ذلك؟ اليمن بالنسبة لهيكل مخزون بشري هائل. وهو أيضاً قبيلة. نحن بصدد أكبر قبيلة في تاريخ البشرية: 25 مليون فرد. عندما يحاول 25 مليون فرد أن ينجزوا (معاً) دولة واحدة فإن الوصف الحقيقي لفعل الإرادة، الفعل الذي يشترك فيه 25 مليون نسمة، هو «الثورة الأسطورية». إذ لا يمكن للغة أن تبتكر توصيفاً لهذه الظاهرة أكثر دقة من الثورة. لكن .. كيف يبدو عبور 25 مليون فرد (من القبيلة إلى الدولة) أمراً غير ذي بال بالنسبة لهيكل، في حين هو – لو تخيلناه على نحو سينمائي – يمثّل لقطة غير مسبوقة: حشود لا نهائية من البشر تعبر الجسر الموصل ما بين القبيلة إلى الدولة. إن أي فنّان، أو مؤرخ، يتجاهل مثل هذا المشهد النادر هو فنان، أو محلل، غير أمين على التاريخ. هذا فيما لو سلّمنا بمقولة إن اليمن قبيلة تريد أن تتحول إلى دولة. لكنها ليست كذلك لأسباب كثيرة جداً. لن أسردها، بل سأكتفي باستعارة عبارة هيكل التي كان يرددها في مقالات الجمعة في العهد الناصري «عفواً، فحديثي سوف يطول».. وفي أواخر الستينات، في العهد نفسه، كتب الشاعر المصري الراحل نجيب سرورحواراً افتراضياً بينه وبين هيكل: - والله أنا خايف خايف تفرق مره. والراكب يصبح مركوب. واركب بغله بالمقلوب - خايف ليه؟ حد يا هيكل ناقشك؟ حد يا هيكل رد عليك؟ حد يا هيكل قالك .. مره بتعمل إيه .. ؟ خايف ليه ؟ - أصل محدش بيصدقني - اختَر كدبه كبيره واقعد كرر فيها ليل ونهار زي الغنوه اياها - غنوة ايه؟ - غنوة «عقد الشرق الأوسط». يعنى السح الدح امبو السح الدح أمبووووو ... تصبحوا على خير.