أطل علينا "الربيع العربي"، بوقع هديره الجارف، للأنظمة والحكومات التي خيمت بظلمها وجبروتها عقوداً متوالية، على شعوب الأمة العربية والإسلامية. وأظهرت في ذلك تحولات كبرى في السياسة والفكر، وغدا تأثيرها بشكل غير مسبوق لدى كافة الأطروحات والتجمعات، ومختلف البنى وتشكيلات المجتمع والأحزاب السياسية، والجماعات والتيارات الإسلامية والمنظمات والمؤسسات العامة والخاصة. وهذه التحولات التي فرضها "الربيع العربي"، ألجأت الأحزاب والتيارات المتعددة الاتجاهات لمراجعة أفكارها وخطط أعمالها، وخطابها العام، وأساليبها في التعامل مع الواقع ومجريات الأحداث، وكذلك إعداد نفسها إعداداً جيداً لخوض المعارك الجديدة التي بدأت لمحاولة كسب المواقف، وأماكن الحكم والقرار، والسيطرة، وفرض الأيدلوجيات على الرأي العام والجمهور. ولذلك كان لزاما على الإسلاميين بتعدد واختلاف أفكارهم، سواء "الإخوان المسلمين" أو "السلفيين"، أو غيرهم من الحركات الإسلامية المتعددة؛ أن يستعدوا لهذه المواجهات والاستفادة من الأخطاء الماضية في مسألة المشاركة السياسية، والتعامل اللين مع الآخر، ويفكروا بفتح قنوات الائتلافات والتنسيق المشترك، في حين أن الآخر يتعامل معها بأشد أنواع القسوة والجبروت. التيارات الإسلامية اليوم في مهمة صعبة؛ لاقتناص هذه الفرصة السانحة التي ربما لن تعود مجددا خلال قرون عديدة قادمة.. ولذلك عليها أن تُصعد من عملها السياسي والاجتماعي لمواجهة القوى السياسية العلمانية، وعدم ترك الباب مواربا لتلك القوى حتى لا يُمكن لها من أمر الأمة، فتفتك بالشعوب، وتنقض على القيم والآداب والأخلاق الإسلامية فتفسدها. ولهم الحق في ذلك؛ لأن الإسلاميين بشهادة الأعداء قبل الخصوم، يُشكلون القوة السياسية والاجتماعية الأكثر تأثيرا في عالمنا العربي. ضد الأيادي "الناعمة" من يتابع خطاب التيارات الإسلامية منذ بداية "الربيع العربي" يجد حالة من "الضعف المتوهمة" تجاه التيارات والقوى السياسية العلمانية داخليا وخارجيا. يحاول الكثير من الإسلاميين أن يظهروا بأوجه مخفية، وأيادي ناعمة، وخطاب بارد، ويقدمون التنازلات تلو التنازلات، دون المساومة المطلقة. بعض هذه المظاهر برزت في حالة (مصر)، و(تونس)، و(اليمن) وبعض الدول العربية الأخرى. في الحالة المصرية أظهر الإخوان المسلمين الود المبالغ فيه تجاه المجلس العسكري (الحاكم حاليا)، والنفي المطلق بعدم وجود أي تنسيق بين الجماعة والمجلس، ولا زال الإخوان المسلمون يقدمون التنازلات تلو التنازلات، في مقابل الغرور والعنجهية التي تمارسها القوى العلمانية الليبرالية، ضعيفة القوة، ومحدودة الجماهير. ويعمل "الإخوان" ذلك على ما يبدو، هروبا من ضغوطات القوى العلمانية التي تسعى جاهدة لتبني أدنى حجة حقيقية أو وهمية للنيل من الإخوان، والترويج لفكرة أن الإخوان المسلمين، "سرقوا ثورة الشعب"، ويريدون قيام إمارة إسلامية(ظلامية). وليست كذلك! كذلك في حالة (تونس) قدمت حركة النهضة(الإسلامية) نفسها كحزب سياسي مع التنصل من إسلامية الحركة ومعيارية خطابها، وإطلاقية مواقفها الإسلامية. وعملت ذاك خشية التصادم مع القوى الديمقراطية اليسارية التي تخشى من قوة ونفوذ هذه الحركة في أوساط المجتمع التونسي. أيضا في حالة (اليمن) يسعى حزب الإصلاح (الإسلامي) جاهدا للعمل خلف الأضواء، وتقديم التنازلات للتيارات العلمانية "المتطرفة"، وكذلك محاولة إرضاء الغرب بذلك الخطاب المتأرجح، وتلك الشعارات المرضية كالدولة المدنية ومكافحة الإرهاب. فضلا عن أن بعض التيارات السلفية ما زالت مبتعدة كل البعد عن ما يحدث، إن لم تكن تروج حول ضرورة الابتعاد عن هذه "الفتنة المحضة" أي الثورات. وفي مثل هذه المواقف والأحداث "ليس المطلوب من الإسلاميين تقليم الأظافر، وإنما إشهار المخالب بين الحين والأخر، ومن يفقد مخالبه فلن يلتفت إليه أحد؛ فالأيدي الناعمة لا يجب أن تكون حالة مطلقة، بل يتحتم أحيانا العض على النواجذ، وإبراز المخالب، والتلويح بموارد القوة؛ لأنه لا فرق بين من يمتلك القوة ثم لا يستخدمها أو يلوح بها، وبين من لا يملكها أصلا" حد تعبير الكاتب أحمد فهمي. انتصار الإسلام حتمية تاريخية خلال القرون الماضية من بدء دولة الإسلام، كان الإسلام – وسيظل- هو القوة الأيدلوجية صاحب الامتداد والنفوذ.. حيث توالت الإمبراطوريات والأفكار والأطروحات التي قدمت نفسها كبديل مناسب للإسلام ودعوته السمحة، فكانت النتيجة؛ هي الانتصار الحتمي للإسلام ودعوته، وسقوط تلك الدعوات. الصليبيون سقطوا، وخلفهم الإمبراطورية الفرنسية، وسقطت كذلك إمبراطورية بريطانيا الضاربة، التي ورثتها أميركا، وقبلها سقط الكيان الشيوعي الذي أراد أن يكتسح العالم الإسلامي عبر القوة العسكرية والأفكار النظرية الماركسية، وكانت النتيجة أن سقط هذا الكيان على أيدي المجاهدين في أفغانستان. في واحدة من شواهد اعتراف الأعداء بهذه "الحتمية التاريخية"، يقول الخبير الأميركي بشؤون العالم الثالث روبرت د. كابلان: "في هذا الجزء من العالم، سيكون الإسلام بسبب تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين أكثر جاذبية. فهذا الدين المطرد الانتشار على المستوى العالمي هو الديانة الوحيدة المستعدة للمنازلة والكفاح". وقد وزعت شركة الاستبيانات الشهيرة "جالوب" استبيان، حول علاقة الشريعة الإسلامية بالدستور، وكانت نتائج الاستبيان في العالم العربي والإسلامي مرتفعة جدا للذين قالوا أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع، وهذا يدل على حجم تعلق الأمة بالإسلام، وحب الدين. وهذا يدل على أن الشعوب الإسلامية تمتلك الاستعداد للإقدام بشكل غير عادي خلف الإسلاميين، رأينا ذلك في ميدان التحرير، ودرعا، وحلب، وبنغازي، وتعز وصنعاء، رأينا الشباب يعرضون أنفسهم للموت، مقابل الحرية والكرامة، والعدل، ومحاربة الظلم، وهذه هي قيم الإسلام. حسب الباحث التونسي سامي إبراهيم "إننا أمام حالة ثقافية دينية سلوكية، يتبناها وينافح عنها بكل وثوقية فئات من المجتمع وخاصة الشباب"، وذلك لأن الأمة لا تريد أكثر من الإسلام منهج حياة، تريد تطبيق الشريعة. الأمة متدينة، مهما بلغ بها الفجور إلا أنها تحب الدين، والعلماء، لأن الدين أساسي وأصيل وعميق في نفوس المسلمين. مطلوب من الجماعات الإسلامية أن تُقدم نفسها للمشاركة في الحياة السياسية، مع الحفاظ على خطابها الإسلامي السمح، خطاب الوسطية الإسلامية، والمشاركة بقوة وبإيمان وحب لتطبيق الشريعة الإسلامية كمنهج حياة، بدون تردد أو تراجع. على الإسلاميين أن يعرضوا قوتهم وإمكاناتهم وقدراتهم الحقيقية، حتى يكسبوا بها مواقعهم التي يستحقونها، بدلا من أن تكسبها قوىً تُضخم إمكانياتها البسيطة، ومواردها الضحلة، وجمهورها البسيط. ومن الجيد "أن تعرف أن الآخر الغربي لا يلتفت سوى إلى مصالحه، ولذلك فإن ما يتم على الأرض هو الذي يفرض عليه تحديد موقفه الحقيقي في ضوء فلسفته التربوية "البراجماتية" دونما التفات إلى قيم إنسانية، أو مثل عليا". هناك حرب شعواء تحدث الآن بين القوى الإسلامية والعلمانية، ومن الجيد أن يعلم الإسلاميون أن هذه الحرب ليست ضد هذا التيار أو ذلك الحزب، وإنما هي حرب عالمية تستهدف الإسلام وتريد إقصاءه عن الساحة واقتلاعه من جذوره. إنها حرب شاملة ومتعددة الجبهات، وتستهدف مبادئ الإسلام وشرائعه ومظاهره في المجتمع.. فهل تسكتون؟!