مع عدم ثقتي بكثير سياسيين؛ إلا أن جار الله عمر رسّخ أفكاره بعظمة الموقف الشهم، فهو جزء أصيل من سيرة طويلة نحو الحرية في اليمن، وهو أحد الأبطال الوطنيين الذين دفعوا ثمناً فادحاً لمبادئهم: رجل سياسة عالي المستوى، استوعب المفاهيم المتغيرة والمعقدة على مدى أربعة عقود، حيث خاض تأملاً واسعاً أفضى به الى التحول من ثوري عنيد متطرف، إلى صاحب تجربة فذة في الحوار والتسامح . الأهم أنه لم يكن سياسياً مرفهاً، فهو المتخاصم النزيه مع نزعة المادة . وبين صنعاء وعدن كان بطلاً للمستضعفين وللحالمين، إذ امتاز بتقييماته غير المتحيزة على الدوام، لكنه ظل الحميم مع الجميع حتى أعدائه، كما ظل يمزج السياسة والفكر متطلعاً كما ينبغي للمستقبل. كذلك وفي ضوء عجرفة السلطة كان موقفه حازماً ضد إذلال حزبه بجسارة مشهودة عقب حرب صيف 94، فيما كانت حياته بين الشمال والجنوب مليئة بما هو معقد من التفاصيل التي نجا من مكائدها باتخاذه الشفافية والمراجعة النقدية منهجاً مسؤولاً وموضوعياً، ما جعله واحداً من أبرع الذين مزجوا اليومي بالتاريخي فصار بمثابة تيار مغاير وآخر في الحياة السياسية اليمنية، بمعنى أنه كان طرازاً نوعياً ومختلفاً من السياسيين والقادة الألمعيين بشخصيته الإبداعية المستقلة، وبالتالي كان من الصعب أن يتم استلابه، إذ اتخذ من النقاشات الصبورة والعقلانية مساراًَ رفيعاً من أجل الحقيقة وتقريب وجهات النظر- إما في عز الشمولية أو مع تمادي القهر الوحدوي بعد العام 90- حتى بلغ درجة رفيعة وحيوية من النضج، كما كانت له سلطة أخلاقية في كل ممارساته على أصعدة السياسة والفكر والحياة الاجتماعية عموماً. ولأنه حامل إرث المحاربين القدامى الذين تميزوا بالإيثار وهموم الوعي العضوي بقضية التغيير، استطاع أن يكون من الرادمين الأفذاذ لتلك الهوة بين الأجيال، ولذلك لقب بحبيب الشباب ونصير الحداثة والحليف الدائم للتنوير وللتقدم. ببساطة كان هذا المناضل الصلب الذي تحل ذكرى اغتياله التاسعة الأسبوع القادم ، أفقاً للتفاؤل الإنساني، وتعزيزاً للهمة الديمقراطية، وكفاءة الروح القديرة وطنياً، إضافة إلى ترقية التعايش الخلاق داخل المجتمع وكذا مفهوم احترام نضالات الشعب. لذلك قتلوه تحت مظلة التكفير، ولم يحتملوا طلقات صوته المثخن بالبلابل، فيما كانت المساواة والعدالة والكرامة وقبول الآخر هي مسالكه الأساس، لكن تياراً قذراً في السلطة وفي الجهة الأصولية المتخلفة والمتشددة كان –وما زال- ضد كل تلك القيم للأسف، خصوصاً وأن جار الله عمر الذي كان وراء توحيد المعارضة اليمنية على نحو فريد، بحيث اعتبرها مراقبون «مهمة مستحيلة تحققت بفضله وآخرون نادرون من بقية أحزاب المعارضة اليمنية، كما أنجزت أثراً طيباً في المجتمع، وأربكت كل حسابات نظام علي عبد الله صالح بمواجهتها».