في كل بقعة من بقاع هذا الوطن مأساة، على كل شبرٍ قلب يئن وعين تدمع وفؤاد مكلوم. تشرد اليمنيون في كل قارات العالم وهم يبحثون عن كرامة تقيهم سمعة «نظام» كان لا يجيد إلا التسول، لا يمر أسبوع أو شهر إلا وتفجعنا مصيبة من قريب أو بعيد، المهم أن جنسيته يمني. هنا أسوأ حدود في العالم.. حدود جغرافية.. حدود وهمية صنعها المستعمر ثم مضى ليزيل الحدود والحواجز بين أبناء جنسه. هنا حدود بين الجنة والنار، ليس هناك منطقة وسطى، هنا حدود كحد السيف وأوامر ملكية. هنا قلوب لا تعرف الرحمة والشفقة، وهنا عيون لا تدقق في التفاصيل. على هذه الحدود البرية تكمن حكاية وطن بيع بشخطة قلم كان بإمكانه أن يفاوض وأن يلعب بكل الأوراق لكنه «باع» «بالباع والذراع والمتر والكيلو»، لم يقتصر البيع على البَر فقط لكنه باع معه الجو والبحر. ينظر العابرون إلى الحدود ولا زالت صورتها على لوحة كبيرة، لكنهم ينظرون إليها باستهجان وسخرية، وكأنهم يقولون هذا شعبك مطارد مشرد يبحث عن لقمة عيش على الحدود، لو كنت وفرت له قليلاً من الكرامة والآدمية لما زحف إلى الحدود ليعبر إلى المجهول تاركاً وراءه كل وعودك الانتخابية، وحلمه بالرخاء في مدة أقصاها 24 شهراً.
على هذه الحدود (يا فخامة القاتل) يُهان شعبك، تسفك دماؤه، وما أرخص الدماء في نظرك! لقد سفكتها في الداخل وسفكها الجنود السعوديون على الحدود، وفي كلا الحالتين أنت من أهدرتها، لقد قتلت كل مواطن في هذا الوطن أكثر من مرة: قتلت الموظف والجندي والتاجر والمزارع، لم يسلم من قتلك أي صنف من هذه الأصناف، على هذه الحدود تتعطل الجوارح تقف كالمصلوب لا تحرك ساكناً. ما أصعب الحياة بين حياتين! وما أصعبها بين غربتين، هنا مجسم للبؤس، أموات بلا موتى، شرِبَت كثيراً هذه الحدود من دماء الشباب، لا لشيء إلا هاربة من جحيم سياستك العرجاء. كأس من علقم يا وطن يتجرعه أبناؤك يشربون منه لكي يحظى قليل من الأوغاد بحياة مترفة.. يا لها من مقارنة سخيفة!. آخر هذه الدماء شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره ذهب ليتخطى حدود الفقر والمهانة، لم يعبر الحدود بتأشيرة رسمية لكن هناك كان «ملك التأشيرات». كانت التأشيرة الأخيرة في حياته من الدنيا إلى الآخرة ختمها جندي سعودي برصاصات حارقة اخترقت جسده ففارق الحياة على إثرها: محمد علي ناجي قايد، شاب من مدينة الزيدية، والشاهد ليس في القتل فالقتل على الحدود أصبح شبه يومي، لكن شهود عيان يقولون إن الجنود تعاملوا مع جثة القتيل بطريقة لا تليق حتى بكلب أو خنزير. يقول الشهود الذين كانوا برفقه المقتول: بعد أن فارق الحياة وأصبح جثة هامدة قام أحد الجنود بركلة في رأسه قائلاً «يمني كلب شحات». على الحدود ليس هناك قدسية للحياة أو الموت.. ترك محمد زوجة وبنتين لم يتعرفا على وجه أبيهما بعد.. وحتى الآن لم تسلم جثته.. فللموت أوراق رسمية. وكأنه كتب على عابر الحدود إهانة في حياته ومماته. حدود لم تصلها لجان حقوق الإنسان والمنظمات الدولية فأي حقوق وأي إنسان على هذه الحدود. محمد ليس أول الراحلين ولن يكون الأخير.. لكن هناك نعشاً آخر في ثورة الربيع العربي، حتى وإن كانت الأسوار شائكة فالرياح لا تقف أمامها جبال العالم كله مجتمعة.
قحطان (السكوت المعبر عن الإرادة) أخوكم عبدالقادر قحطان.. طالب في جامعة عين شمس.. بهذه العبارة استقبلنا بحفاوة، جئنا كالعميان, في القاهرة كان «الأب الروحي» لجميع الطلاب من حوله، كريم يستحي منه الكرم، متواضع ينبئ عن معدن أصيل في التربية والأخلاق، شخصية قوية في عمله يجبر الجميع على احترامه، عنوان رسالة الدكتوراة التي ناقشها في جامعة عين شمس هي عنوان لحياته كلها «السكوت المعبر عن الإرادة». أرسلت له رسالة تليفونية في العيد «عندما تعطينا الحياة أحباباً مثلك فإنها تكون قد أعطتنا أكثر مما نتمنى» تأخر الرد كثيراً وهذه ليست من عاداته.. بعد حوالي أسبوع جاءني الرد في الساعة الواحدة صباحاً «لأسباب خاصة تأخرت في الرد شكراً على مشاعركم الطيبة ونسأل الله أن يصلح العباد والبلاد» هنيئاً لهذا الوطن بك يا أبا محمد.. وقد تتغير جبال صنعاء كلها ولن يغير الكرسي أو أي منصب هذا الرجل الذي له عليّ فضل وأفضال. المصدر أونلاين