كانت الفرحة عارمة في وطننا 21/2/2012 ، ولا شكّ أن كثيرا من شعبنا قد ذرف دموع الفرح وهم يرون البهجة تعمّ البلاد التي عاشت تحت أنظمة الاستبداد فترة من الزمن، فشعبنا أعلن تحرير بلده نهائيا من حكم الطاغية ليدخل مرحلة بناء الدولة الحديثة في ظلّ الحرية والعدل وحقوق الإنسان والتنمية الحقيقية والاستفادة من خيرات البترول التي كانت حكرا على "الأسرة الحاكمة " وحاشيتها، إن شعبنا دشن عهد الحكم الراشد عبر صناديق الاقتراع غير المزيّفة، وقد كان إقبالهم على التصويت متجاوزا كلّ التوقعات، ولا ينسى أحد ما عانى الشعب من كل ذلك عقودا من الزمن، ويستحقّ اليوم شهادة شرف ووسام تقدير لإطاحتهم المدوية بالاستبداد وإعلانهم الواضح التمسّك بالهوية الأصيلة والاعتزاز بالانتماء الإسلامي. كانت تونس سباقة إلى الثورة الشعبية السلمية التي بهرت العالم بإسقاط نظام مستبدّ متجذّر ثم بإنجاح انتخابات تعددية جرت بشكل حضاري رفيع المستوى، لكن ليبيا اضطرّت لحمل السلاح للدفاع عن شعب بأكمله كان الطاغية يهدّده بالمحق، وأكرمها الله بنصر مؤزر يفتح الباب للحياة السياسية النظيفة، وبين تونس وليبيا نجحت ثورة مصر وهي تشقّ طريقها نحو استكمال بناء دولة المؤسسات المنتخبة رغم التحديات الضخمة. أما ثورتنا في اليمن فقد اتسمت بأشرف وسام, كان ينظر لها العالم بأنها شعب مسلح ومتخلف لكنها أثبتت للعالم أجمع أن الإيمان يمان والحكمة يمانية بخروجه بنجاحٍ باهر وبأقل الثمن. أجل، تواجه الثورة اليمنية المنتصرة تحديات ضخمة، وتنتظرها ورشات متعدّدة تتّصف كلّها بالخطورة والضخامة والاستعجال، وهذا أمر طبيعي تعرفه الشعوب والأطراف السياسية والمجتمع المدني، ولا مفرّ من اقتحام العقبة وبذل العرق والجهد والتحلّي بالصبر واستجماع الكفاءات من كلّ مكوّمات المجتمع ليتحمّل الجميع مسؤولية الانتقال السلمي إلى الحياة المدنية الراقية والاستقرار المؤسّسي وتسيير الاختلافات وبعث التنمية، ويهون كلّ هذا أمام العمل الأكبر والأصعب المتمثّل في إعادة صياغة الإنسان بتحريره من أوهامه وتحصينه من قبول الاستبداد بأي شكل من الأشكال وتفجير طاقاته الإبداعية في كلّ المجالات وجعله يُثبت ذاته ويمسك بمصيره بنفسه متوكّلا على الله معتمدا على العلم والإيمان رافضا جميع أنواع الوصاية الفوقية، ولا شكّ أنّ هذا في حاجة إلى ثقة في الله وفي الشعب وإلى أدوات بعضها مقتبس بذكاء من التجارب الإنسانية التاريخية والمعاصرة، وبعضها مبتكّر غير مسبوق تتفتّق به قرائح الأحرار والحرائر.
سيستعجل كثير من الناس قطف الثمار ويريدون تغيير كلّ شيء في فترة وجيرة ، وستتزاحم الأولويات على السياسيين والدعاة والمصلحين والمؤسسات الجديدة ، ورضا الناس غاية لا تّدرَك، لذلك يجب ألاّ ينسى الشعب زمن القهر والكبت والظلم وأن يستشعر حجم التركة السلبية وثقَلَها ويتحلّى باليقظة والحسّ الوطني ويتسلّح بالصبر والعزيمة ويقدّم أداء الواجبات على المطالبة بالحقوق في المرحلة الأولى من انتصار الثورة على الأقلّ ،لأنّ الاستعجال والإلحاح في المطالب المختلفة – ولو كانت مشروعة – باب يدخل منه المتربّصون وأعداء الثورة ورموز العهد البائد ليُفسدوا الفرحة ويخلطوا الأوراق ويُعيقوا السير الطبيعي لمؤسّسات الدولة الوليدة التي تحتاج إلى وقت وتجربة لتكتسب الخبرة اللازمة لتسيير شؤون البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقاته الخارجية وغيرها ، وهذا غير خاف على قادة الرأي الذين لا يُسعفهم شيء أفضل من عرض مشروع واضح على الشعب، والصدق في التعامل معه، والرجوع إليه في جميع الخيارات الكبرى، وتبصيره بالتحديات والتضحيات، ومدّه يوميا بجرعات قوية من الأمل ،وجعله يستمتع فعلا بأجواء الحرية ويلمس ثمراتها بعد أن تجرّع غصص الدكتاتورية وحُرم من الابتسامة والسرور والتفاؤل، عسى أن يتذوّق طعم العيش الهنيء في بلاد عربية إسلامية بلا طغاة مستبدّين ولا حكّام متألّهين، فذلك هو الحصن المنيع الذي يحول دون الانتكاسات.