كثيرة هي الأحداث الساخنة في الساحة اليمنية التي يجب على القوميين العرب أن يرصدوها ويتفاعلوا معها بالتحليل العلمي ثم التعاطي معها باجراءات تثبت وتبرهن على قومية وعروبية اصحاب هذا الفكر والمنهج. ولعل ما تشهده اليمن اليوم من حراك اجتماعي في محافظات الجنوب وتصعيد عسكري في صعدة واحتقان اجتماعي في المحافظات الشرقية يدفع القوميين العرب الى الاجابة على سؤال: ماذا يجري في اليمن؟ وهل هناك خطر أو اخطار تهدد وحدة اليمن التي هي جزء أصيل في المنجز القومي؟ سأحاول في السطور التالية الاجتهاد في تقديم إجابة، علها تفتح باب الحوار القومي المسؤول من أجل بلورة موقف مشترك، ينطلق من تحديد ملامح المشهد المتفجر في الجنوب والشرق فضلا عن صعدة وقضية الحوثيين –من منظور عروبي- على النحو التالي: لا تزال قضية الحوثيين في صعدة تراوح مكانها وتجدد الاشتباكات بينهم وجنود السلطة بين حين وآخر بسبب غياب منهج واضح لمعالجة المشكلات، وهو منهج التنمية الشاملة والمتوازنة لكل المحافظات وليس تركيزها في العاصمة فقط، ولازال المنهج البدائي المتمثل في رشوة شيوخ القبائل بالمال والمناصب والسلاح وتوكيلات الاستيراد هو المنهج الغالب، الامر الذي ادى الى انتشار عمليات الابتزاز للدولة، وانتشار ظاهرة خطف الاجانب للضغط على الدولة حتى تستجيب للمطالب الاجتماعية للقبائل، الامر الذي أساء عالميا لدولة الوحدة اليمنية لأن هذه الظواهر لم تكن موجودة ولا معروفة في الدولة الاشتراكية في جنوب اليمن قبل الوحدة. هناك تظاهرات شبه يومية في جميع المحافظات الجنوبية منذ صيف عام 2006 لم تتوقف بل تزداد شعبية بقدر ما تزداد ضراوة السلطة في القمع والارهاب. واللافت ان التظاهرات امتدت من عدن الى جميع المحافظات الجنوبية ثم وصلت الى المحافظات الشرقية، في ظل تعنت من السلطة واستعلاء، الامر الذي أدى الى تراكم مشاعر الغضب وتحولها الى كراهية للنظام وسياساته ورموزه. بدأت التظاهرات احتجاجية محدودة وكان هدفها بناء نسق سياسي اجتماعي بديلا عن الأحزاب المعارضة التي فشلت في التعبير عن مطالب ابناء الجنوب أو بالأحرى حاولت لكن السلطة سدت امامها كل الابواب، فراح الجنوبيون يشكلون ما سمي "الحراك" في بعض المحافظات ثم شمل كل المحافظات الجنوبية. والشاهد ان الحراك قدم شخصيات جديدة الى المشهد السياسي كبديل لقيادات الحزب الاشتراكي وهي قيادات شعبية وراديكالية ومرتبطة بالناس وليس بالنظام، لذلك وجدت استجابة من المواطنين الذين انحازت اليها،ورغم أن قيادة الحراك لا تزال مناطقية ولم تبلور قيادة جماعية الا أنها تكتسب أرضية كل حين، وهي مطالبة بالحوار المشترك لتوفير قيادة جماعية على أسس ديمقراطية حتى تتمكن من مخاطبة السلطة من موقع قوي وواضح. وقعت اشتباكات بين المتظاهرين الغاضبين وبين قوات الامن ولاحظ المراقبون ان المتظاهرين اشتبكوا مع جنود من المحافظات الشمالية وحرقوا بعض المحلات التي يمتلكها شماليون الأمر الذي كشف عن مأزق حقيقي، هو تكرار عمليات الانتقام من الجنود الشماليين وهو ما ينذر بالخطر. فالرئيس اليمني نفسه هو الذي قال انه لو حدث شرخ في جدار الوحدة فالبلاد لن تعود الى شطرين مثلما كانت قبل مايو 1990 وانما ستتحول الى كانتونات تتصارع من بيت الى بيت ولن يكون هناك طريق آمن في عموم اليمن. والواقع أن اليمن تعيش على أعصابها بعد أن استخدمت السلطة الذخيرة الحية في قمع المتظاهرين ضدها في المكلا عاصمة حضر موت، وبعد ان صارت الدبابات تحاصر كل مدن الجنوب والشرق ولا تزال تدخل معركة بعد اخرى في صعدة ما يعني ان ازمة اليمن انتقلت من حالة العصيان المدني الى العنف المسلح وهي مرشحة للمزيد في ظل الاحتقان الاجتماعي والاخفاق الاقتصادي وأزمة البطالة وتراجع مستوى المعيشة وهي كلها ظواهر سلبية ارتبطت بالنظام الحالي منذ هيمن على السلطة بعد اقصاء حليفه وشريكه في الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني. وحتى لا يفاجأ القوميون العرب ذات صباح بانباء سوداء من اليمن عليهم التحرك، وفق ما نعتقد أنه الحق وهو: أولا: أن القوميين العرب هم أول طرف معني بالدفاع عن الوحدة اليمنية التي حققها الشعب اليمني وليس قادته. في عام 1990 تجسدت ارادة الشعب اليمني وتحققت الوحدة التي هي هدف غال وسام لا يمكن التفريط فيه، لكن حدثت تطورات ادت في نهاية الامر الى حالة نفسانية سيئة تسيطر على نفوس المواطنين في المحافظات الجنوبية الذين كانوا يحلمون بالحرية والديمقراطية والرقي الاقتصادي في ظل دولة الوحدة فاذا بهم يعانون من السرقة والنهب والضيم لأن الطرف المتحكم في الشمال نظر إلى الوحدة باعتبارها ضما والحاقا وليس توحيدا وشراكة، والرئيس اليمني الحالي انتصر في الحرب 1994ضد شريكه في الوحدة وصار يمارس -ورجاله- كل أشكال القمع ضد المواطنين في الجنوب، ووصف احدهم نتائج حرب الصيف بأنها "عودة الفرع الى الاصل" وهذا هو مكمن الخطر، فالثقافة الوحدوية –التي تعني الشراكة- غائبة عن قمة الهرم السياسي في اليمن. فالرئيس يحكم منذ عام 1978 ويعدل الدستور ويهيئ ابنه لكي يرث الحكم، وهذا النظام الاوتوقراطي هو الذي جر البلاد الى حربين "1979-1994" ولازال مرشحا لانتاج العديد من الازمات الداخلية والإقليمية بالنظر الى منهجه في ادارة شؤون الدولة. ان غياب العدالة الاجتماعية هو أول خطر يهدد الوحدة فالمظالم في الجنوب فوق الحصر، ومعاناة المواطنين متعددة ومتنوعة ومستمرة وتتراكم مع الايام، بعد أن تم عسكرة الجنوب، وبطبيعة الحال فأن انتفاضات الجنوب تنوعت وتعددت وتراكمت حتى وصلت الى هذه المرحلة المعقدة التي تحتاج الى تفهم من القوميين العرب وبالتالي التدخل بعد التنسيق مع طرفي الأزمة. وغياب مبادئ المواطنة المتساوية أدى الى احساس ابناء الجنوب بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية مع انهم الطرف الذي قدم الكثير من أجل الوحدة. وفي المقابل تستشعر النخبة الحاكمة في الشمال بأنها تحصل حتى الآن على امتيازات تحققت لها بفعل الانتصار العسكري بعد الحرب العبثية التي راح ضحيتها آلاف المواطنين والضباط والجنود، والتي لاتزال آثارها قائمة في البلاد. وغياب سيادة القانون لاسيما في المحافظات الجنوبية والشرقية ادى الى استشراء الفساد وعدم تطبيق الأحكام القضائية الصادرة لمصلحة مواطنين تعرضت ممتلكاتهم للسرقة والنهب على يد ضباط الحرس الجمهوري والفرق المدرعة وضباط الأمن. فلا توجد هيئة تستطيع ان تنفذ احكام القضاء بل العكس هو الحاصل فالآف المواطنين يحملون قرارات قضائية لا يستطيعون تنفيذها بسبب تواطؤ الذين يشعرون بأنهم سادة البلاد وان الآخرين هم العبيد. ثانيا: بدلا من أن يدعو النظام الى الحوار مع اطراف الحراك الاجتماعي في الجنوب، والى مشاركة كل القوى السياسية في بلورة تصور ديمقراطي قانوني لتصحيح الاوضاع، أعلنت وزارة الدفاع عن تشكيل ميلشيات وهيئات شعبية تضم شبابا من المحافظات الشمالية (وهذا أمر خطير للغاية) للدفاع عن الوحدة بين الشمال والجنوب، وذلك في ظل تزايد المخاوف من انفراط عقد الوحدة اليمنية هاجسا لدى الشارع اليمني، اثر زيادة حدة تحركات الجنوبيين الذين يرغبون في العدالة والديمقراطية والشراكة المتساوية. وبعدما تزايدت دعاوى الانفصال في اوساط النخبة الجنوبية الثائرة وذلك بالتزامن مع أعمال عنف استهدفت جنود شماليين ومحلات يملكها شماليون في تلك المحافظات، خاصة حضرموتولحج. وبدلا من أان يدعو الرئيس قيادات الاحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين الى طاولة حوار واسعة للنقاش حول تطورات الاوضاع في البلاد، اجتمع وزير الخارجية اليمني ابوبكر القربي بسفراء واشنطن، والاتحاد الاوروبي، واطلعهم على مجريات الأوضاع فى البلاد وطالبهم وقوف بلدانهم مع الوحدة اليمنية، وراح القربي يطمئن السفراء الاجانب "بأن هناك صورة مغلوطة لدى المراقبين عن الأوضاع في اليمن وان الامور تحت السيطرة، وان اليمنيين قادرون على حل مشاكلهم بأنفسهم". وتابع العالم كله على شاشات التلفاز صور حرائق تمتد من دكان الى آخر في المكلا وردفان وأبين ولحج وهي المدن التي شهدت اعمال عنف واحتجاجات على مدى اليومين الماضيين أدت إحراق محلات لتجار شماليين في مدينة المكلا عاصمة حضرموت إضافة الى مقتل جندي، وإصابة 14 آخرين في هجوم على حاجز عسكري عند مدخل الريدة الواقع بين محافظتي لحج والضالع الجنوبيتين. وبدلاً من أن يعترف النظام بوجود مظالم اجتماعية وبطالة وفصل وتشريد للعمال الجنوبيين، واتساع رقعة حزب "خليك بالبيت" وتنامي حالة الكراهية للنظام "والدحابشة" راح يصور الامر على أنه مؤامرة جديدة تحاك ضد اليمن وتستهدف إعادة تمزيق وحدته الوطنية، تحركها عناصر وعوامل خارجية. لكن الحقيقة هي ان استمرار هذا المنهج هو الخطر الاكبر على الوحدة. فالرئيس صالح محق عندما قال: "الوحدة ليس ملك ل علي عبدالله صالح ولا لمسؤولي في الدولة ولا ملك لفرد أو شخص بل منجز وطني وقومي عظيم صنعه ويملكه كل أبناء الوطن الشرفاء والمخلصين، ويجب أن نحافظ عليه كما نحافظ على حدقات أعيننا". نقول هذا حق ولكن الأحق منه أن تكون هناك ديمقراطية تسمح بالتغيير وليس الحكم الأبدي كما هو حاصل الآن. والديمقراطية تعني المشاركة الشعبية وليس العبث بالدستور كما هو حاصل ولا تأجيل الانتخابات التشريعية وفق هوى ومزاج الحاكم كما حصل مؤخرا، والوحدة تعني العدالة، وسيادة القانون والمواطنة المتساوية والشراكة الحقيقية في القرار والثروة. ثالثا: ان القوميين العرب يستطيعون المساهمة في تخفيف حدة التوتر بين النظام وابناء الجنوب وكذلك بين النظام وابناء صعدة لو تم تشكيل وفد قومي لمقابلة الرئيس ومطالبته ببدء حوار مصالحة وطنية شاملة لانهاء الاحتقان. واهمية هذا الوفد تكمن في ان احدا لا يمكن ان يزايد عليه ويتهمه بالترويج للانفصال وهي التهمة الجاهزة التي يوجهها النظام الى كل من يعارضه او كل من ينصحه بتصحيح مسار الوحدة، واياد سياج من العدالة لحمايتها، واشراك فعلي (وليس شكليا) لابناء الجنوب في السلطة والثروة والقرار، فهكذا يكون القوميون ايجابيين، وهكذا يمكن ان تدخل اليمن في دائرة حوار واسعة النطاق بدلا من الدخول في محرقة العنف التي ستأكل الاخضر واليابس ووقتها لن تنفع دموع القوميين العرب. عن ميدل إيست أونلاين