كان المقام مشتتاً بين الذهول، والرعب، والرجاء، والخوف، بين عينٍ ترى إنساناً سيودع الحياة بعد لحظات، وقلبٍ لا يزال يرفل بالأمل، يدعو القادر على كل شيء، أن يمد يد عنايته، لأجل هذا الكائن البسيط، لأجل أطفاله، زوجته... يا إلهي الأطباء هنا مثل الموت، يرصدون لحظة الضعف الأخيرة. الحالة الغريبة، والمرعبة في آن، شاهدتها أمس الأول الثلاثاء في مكتب الصحة بمحافظة إب، كانت لرجل في الأربعين، مصاب بداء الكَلَبْ، دون أن يتنبه لحالته أحد. الرجل يعمل حارس مزرعةٍ في تهامة، عضه كلب مسعور في ساقه اليمنى، فشعر بتغيرات بدأت تضرب جهازه العصبي، غادر المزرعة إلى قريته في العدين، وهناك أعطوه إسعافات أولية، دون تشخيص، الاضطرابات العصبية المتسارعة أجبرت أسرته على ترحيله إلى طبيب أعصاب معروف في مدينة إب، والطبيب “اسم الله عليه” أعطاه علاجات للارتعاشات العصبية التي يعاني منها، دون تفحص لجسد المريض، ودون الالتفات إلى عضة الكلب في الساق اليمنى. التدهور المتسارع في جسد المريض جعله يرقد لليلة واحدة في مستشفى الثورة بإب، وهناك عرف الأطباء أن الرجل مصاب بداء الكَلَبْ... لكن علاج هذا الداء ممنوع تداوله في الصيدليات والمرافق الصحية، وحتى المستشفيات الحكومية ممنوع فيها... يجب أن يظل حبيساً في وحدة “داء الكَلَبْ” المتواجدة في كل إدارة عامة للصحة في المحافظات... طبعاً هذه السياسة الصحية “الحكيمة” يتوارثها وزراء الصحة منذ زمن، ويتم احتكار أنواع من الأدوية داخل الإدارات العامة للصحة فقط، وكأن الدولة لا تثق بنفسها. فأدوية داء الكَلَبْ، ونزيف الدم الوراثي، وغيرها، يمنع نهائياً تواجدها أو بيعها في أي مكان غير إدارات الصحة العامة بالمحافظات. أعود إلى الرجل الأربعيني: كان ممدداً، فاغراً فاه، لسانه ترتعش بطريقة مرعبة، يداه لا تتوقفان عن الارتعاش، جسده النحيل ملقى فوق المحفة، الأطباء ينظرون إليه بحيادية، لا تتدخل لديهم، كان على أحدهم أن يهمس في أذن المرافق ببرود: صاحبك «منتهي»..!!. أحد الأطباء قال لي أن داء الكَلَبْ أخطر من السرطان والايدز، وأكثر فتكاً منهما، فهذان المرضان قد يمهلان المصاب بهما سنوات، أما داء الكَلَبْ فلا يمهل المصاب به أكثر من 10 أيام، ويجب أخذ أول حقنة مضادة بعد الإصابة ب 10 ساعات، لا تزيد، وإلا وصل الفيروس إلى الدماغ. في تقرير رسمي لوزارة الصحة عام 2010 ذكر أنه يوجد في اليمن مليون كلب مسعور، وأن محافظة ذمار تحتل المرتبة الأولى في عدد الكلاب المسعورة. في ظل إمكانيات شحيحة، وضعف حاد في الضمير، ستستمر الأدوية الخاصة بداء الكَلَبْ سجينة في إدارات الصحة، لا أحد يأبه لحال المرضى والمصابين، رغم أن العدد الفعلي للكلاب المسعورة، يفوق ثلاثة أضعاف إحصائية الوزارة. هنا لا ألوم مكتب الصحة بإب، فهو مجرد أداة لتنفيذ السياسة الصحية لوزارته، ويجب على وزارة الدكتور العنسي أن تراجع سياستها، فعلى الأقل يتم توزيع هذه الأدوية والأمصال في المستشفيات الحكومية، ومكاتب الصحة بالمديريات. نقلاً عن الجمهورية بالاتفاق مع الكاتب.