ها قد نزل الشباب الشارع، لكنهم ليسوا شباب الإخوان المنضبط بقيادة الذين شاركوا في جنازات المرشدين السابقين بعشرات الآلاف، ولا هم شباب «كفاية» التيارات المعارضة الذين لديهم حس سياسي «وكانوا يتهمون بأنهم قد يقومون بأعمال تخريب ويتم القبض عليهم»، ولا هم شباب الجامعات المثقف الذي تقف له الكلاب البوليسية وكتائب الأمن المركزي بالمرصاد خارج أسوار الجامعة، لكنهم شباب الأحياء الفقيرة التي تم إكراهها علي العشوائية، كي تعيش بعد أن انسحبت الدولة من رعاية المواطنين فطبقوا استراتيجيات البقاء غير المنظمة ليتمكنوا من العيش. هؤلاء الشباب الذين أطل عليهم من شرفة منزلنا في ميدان التحرير، تلك الشرفة التي شاهدت منها الجموع تبكي وهي ذاهبة لجنازة جمال عبد الناصر، وشاهدت منها الناس تقذف بالحجارة وتهتف في مظاهرات الخبز في انتفاضة الشعب الذين اسماهم «السادات» بالحرامية وهو جالس في قصره. وشاهدت منها عربات الجيش حين نزلت لفرض النظام أيام أحداث الأمن المركزي، وشاهدت منها مظاهرات 2003 -2007 حين نزلنا الشارع ضد غزو العراق، ودعما لفلسطين، ومناصرة للقضاة، وللمطالبة بوقف سيناريو التوريث، وكنا منظمين كمواطنين، نتحرك بوعي رغم قلة العدد وكثافة الأمن. نزل الشباب الشارع، وأنا لا أقصد الناس التي نزلت تحتفل بعد المباراة الأولي مع الجزائر، فهذا أمر مقبول، ساعتان وكل واحد يروح لحاله، تنفيث شوية كما قال لي أكثر من مسئول أمني وسياسي أعرفهم في دائرة الأسرة والعمل، ماشي. لكن ما شاهدته بعد المباراة الأولي لمدة ست ساعات في ميدان التحرير ومثله في كل شوارع القاهرة لم يكن فرحة، بل كان هيستيريا، شباب يرقص بجنون، ويصرخ حتي لا يجد صوتاً، ويطلق الصواريخ الاحتفالية، وألعاب النار المختلفة، ويقطع الطريق ويتسلق الحافلات، ويجتاح أمامه كل شيء.عموماً هذا ليس بجديد، لكن الجديد أن يركب النظام المصري الموجة فيتحرك بلا عقل، وتصبح حركة الجموع الهيستيرية- المصرية والجزائرية علي حد سواء، هي التي توجه السياسة الخارجية المصرية، وتصبح مباراة كرة هي قضية الصحافة والإعلام، فتدمر أفقنا العربي والأفريقي بمقولات عنصرية استعلائية ما أنزل الله بها من سلطان.النظام الذي وقف فحلاً في مواجهة التعدي علي المشجعين لم يفعل شيئاً لكرامة الشعب الذي يعيش نصفه تحت خط الفقر، وللغارقين في العبَّارة والقتلي في القطارات والشهداء في قاع البحر المتوسط هربا لإيطاليا، لكنه انفعل وأرغي وأزبد، وكان الأولي أن يأخذ احتياطاته الأمنية والتنسيق الأمني العربي لمكافحة المعارضة تحت مسمي الإرهاب علي قدم وساق، أقول كان الأولي أن تنسق الجهات الأمنية لمكافحة الشغب المتوقع علي بعض المصالح المصرية في الجزائر، لكن ذلك لم يحدث، وكان ينبغي أن يحمي المشجعين الذاهبين للخرطوم، التي زرتها مرتين، التي يعلم الجميع أن أمنها عنده إخلاص وتفان لكن الخرطوم مساحة مفتوحة يصعب ضبطها بحكم جغرافيتها، وبدلاً من محاسبة من ترك المشجعين يواجهون التحرش، وهو معلوم ومتوقع، إذا بالسيد «علاء مبارك» يعطينا علي الفضائيات بالصوت «دون صورة» في حوار مع قناة رياضية وصلة هجوم علي العروبة ويسفه التضامن العربي ويضرب علي وتر كفاية كده بقي عرب، وتحيا مصر.. مصر مصر!
لقد توقعت السيناريو قبل بدء المباراة، ضرب، فوضي، ثم هيستيريا للنظام دفاعا عن الكرامة المصرية، الذي هو أول من يهينها ويضيعها. وتوقعت أن يتم سحب السفير «ولم يسحب سفيرنا من إسرائيل بعد»، وأزمة دبلوماسية، توقعت كل هذا بتفاصيله المملة، وأتوقع بعد فترة وساطة فرنسية من ساركوزي في إطار لقاءات الاتحاد من أجل المتوسط، وبعد قليل سيكون هذا النظام هو الذي يقول لنا إن مسئولية مصر العربية ستبقي وأنه لا شيء سيفسد العلاقات المصرية الجزائرية، وأن ما بيننا أكبر من مباريات كرة وفوضي غوغاء.ونبدأ حلقة جديدة من غياب الرؤية، وقصور النظرة والبحث عن قضية جديدة نلهي بها الناس.لكن الذين نزلوا الشارع أسبوعا ويزيد لا يفهمون ألعاب السياسة، والذين شاهدتهم في ميدان التحرير عصرا يعبثون بأصص الزرع ويلقون بها في عرض الطريق أمام السيارات وحافلة سياحة ثم يهرولون فرارا في أرجاء الميدان، وغدا ما هو أخطر.
لا يعنيني الحديث عن مشجعي الجزائر، بل يعنيني الحديث عن نظامنا نحن، وسلوكنا نحن، وموقفنا نحن، ومستقبل مصر في المشهد كله، الآن وغدا.
غدا تذهب السكرة، وتأتي الفكرة، وغدا يعرف النظام كيف أخرج العفريت من القمقم، و قطع أوصال التضامن مع المغرب العربي كله بهذا الجنون والنفخ في اللهب، بل بدأ في مواجهة غضب السودان من تصريحات الإعلام عنها الذي يبدو لم يعد يعي فيه أي أحد مصلحة قومية ولا وطنية، وصارت الرؤية القومية والوطنية كالكرة بين الأقدام، ولا هم للجميع إلا المزايدة.. والاستكبار .. والفرعنة.