الاعتقاد الشائع هو أن الحوار يمثل وسيلة اليمن الأسلم وربما الوحيدة للخروج من غابة التحديات المركبة والمشاكل المستعصية التي مازالت تتخبط بداخلها منذ عقود، ربما ليس إلى بر الأمان مباشرة ولكن إلى أول الطريق الموصلة إليه، وهذا يكفي كإنجاز مرحلي عظيم، ولهذا الاعتقاد مبرراته الوجيهة التي نتفق مع الكثير منها، ولكن السؤال المهم الذي لم يتم التطرق اليه بجدية كافية حتى الآن هو ما إذا كان ثمة شروط أو ظروف يمكن للحوار في ظلها أن يتحول إلى طريق محتمل نحو الكارثة أو الكوارث الوطنية الكبرى، وماهية هذه الكوارث ومصادرها إن وجدت، ووسائل تحصين الحوار ضدها، ولعل أن هذه التساؤلات لم تثار إما لعدم التنبه لوجودهذه المخاطر أصلاً أو بسبب التقليل من أهميتها، على أننا نعتقد أن لهذا التخوف ما يبرره، وأن ثمة مخاطر حقيقية ذات مضامين إستراتيجية هامة جداً يمكن أن تترتب على الحوار في حال عدم أخذ أهم المحاذير بعين الاعتبار، وأن هذه المخاطر هي ذات احتمالية عالية في حال عدم التنبه لها والتعامل الفعال معها، وسوف نحاول فيما يلي الإجابة بإيجاز شديد عن كل من هذه التساؤلات المقلقة. أما الشروط والظروف التي يمكن أن تجعل من الحوار طريق محتمل نحو الكارثة فإن من أهمها بالإضافة إلى ضعف الدولة وإنحسار هيبتها، ومن ثم دورها في كبح الممارسات الانتهازية والابتزازية والتصرف خارج حدود المشروعية الدستورية وأسس المصلحة العامة ما يلي: 1- إنحصار أو حتى تركز الحوار على أطراف الصراع السياسي والعسكري والأمني الراهنة وعلى مراكز القوى وجماعات المصالح ومختلف مصادر الأذى السياسي والأمني الواقعة والمحتملة على اختلاف انتماءاتها الفئوية والمناطقية، بأجنداتها الفئوية الضيقة، التي تفتقر في كثير من الحالات إلى الرؤية الشمولية المتوازنة، وإلى الحس الوطني والأسس المرجعية للمصلحة العامة. 2- تركيز الحوار في مسعاه لتحديد خيارات ومسارات البناء الوطني المستقبلي على مقتضيات وشروط تحقيق التوافق بين القوى المتحاورة، وانحصار مرجعيات الحوار أو حتى مجرد إخضاعها لمتطلبات تحقيق هذا التوافق بغض النظر عن المصالح العامة، الأمر الذي سوف يعكس على نحو أو آخر القوة النسبية والمصالح النسبية للقوى المتحاورة بتمثيلها المتحيز لمصلحة مراكز النفوذ وجماعات المصالح ذات الأجندات الخاصة، بما فيها التي ترى في بناء الدولة اليمنية خطراً عليها باعتبارها نقيضها الوجودي المباشر، عوضاً عن أن تكون هدفاً لها ، أو تلك التي لن تقبل بهذا الهدف إلا باعتباره وسيلة لترجيح كفتها، ولضمان حد أدنى معين من مصالحها بما في ذلك شروط إدامة هيمنتها. 3- الدخول إلى الحوار دون وضوح كافي بشأن ماهية المصلحة العامة في ضوء خارطة الخيارات المجتمعية الممكنة، ومرتكزات ومسارات تحققها وحقيقة الأرادة الشعبية العامة بشأنها، وبدون التزامات واضحة بشأن تحقيق الصالح العام من خلال الحوار، أو على الأقل مراعاته والتوقف عند حوافه القصوى، ودون وجود دور مجتمعي فاعل لحماية المصلحة العامة للشعب والوطن، وتحصين الحوار ضد محاولات التجيير المصلحي الانتهازي سواء على قاعدة التوافق أو غيره. أما ماهية المخاطر التي يمكن أن تترتب على الحوار في حال السير فيه في ظل المعطيات السابقة فهي كثيرة من أهمها ما يلي: 1- إنهاء بشكل حاسم أي سمة أو ملمح للمرحلة الراهنة باعتبارها مرحلة انتقالية، وتكريسها كلياً ونهائياً كمرحلة تأسيسية تؤدي فقط إلى تأصيل وتعزيز مرتكزات القوة والنفوذ لأطراف التوافق الراهنة، وتلك التي سوف تتمخض ترتيبات الحوار بنهجه الراهن عن ضمها إلى المنظومة التوافقية، وبينها العديد من القوى الانتهازية ذات الأهداف الضيقة، ومن دون النظر إلى حقيقة تمثيل هذه القوى للإرادة الشعبية أو الصالح العام من عدمه حتى في إطار فئتها. إن تحويل المرحلة الانتقالية إلى مرحلة تأسيسية لتكريس سلطة قوى التوافق القائم سوف يكون له انعكاساته الخطيرة على الحوار وخصوصاً بالنسبة للقوى ذات الأجندات الوطنية الهادفة إلى بناء الدولة الحديثة، التي سوف تصاب بمشاعر الخذلان واليأس، وأخطر من ذلك وأدهى أنه سوف يعزز موقف القوى ذات الأجندات الأخرى وبالذات الانفصالية، وذلك لأنه سوف يكسب هذه القيادات المزيد من التفهم لطروحاتهم الانفصالية بين منتسبي فئاتهم وخارجها، على اعتبار أن ما أشبه الليلة بالبارحة، فليس ثمة جديد حقيقي في بنية الدولة أو نهج بنائها، وأن الأمل قد تمخض وولد أناس جدد يعملون الأشياء القديمة ذاتها، ومن ثم فلا أمل في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة والعادلة، ولا سبيل إلى النجاة إلا بالقفز خارج الأسوار. إن استدعاء الشخصيات والكيانات المعادية لنهج التحديث وبناء الدولة اليمنية الواحدة الموحدة، ومنحهم الحق والصفة التمثيلية للفئة المعينة أو لأنفسهم، لمجرد قدرتهم على الأذى وحتى بدون سند ديمقراطي من داخل الفئة التي يمثلونها ذاتها، ومنحهم وفئاتهم حق تمثيل الشعب عموماً لتحديد أهم خياراته ومساراته المستقبلية، إنما يمثل تحيز غير مبرر ضد المصلحة العامة وضد خيار بناء الدولة الحديثة ولمصلحة تكريس سلطة القوى المهيمنة على المشهد السياسي بحكم الأمر الواقع، وتكريس النموذج السابق للحكم ولصيغ التفاعل السياسي في الدولة بكل ما يحمل هذا من المخاطر السياسية والاستراتيجية المميتة لمرتكزات الاستقرار المجتمعي والسياسي والأمني، ولوحدة اليمن وللدولة اليمنية عموماً. 2- استدعاء القوى وجماعات المصالح الفئوية والمناطقية (وحتى العصابية) المتربصة في كل زاوية والمصالح المرتبطة بها والمتحالفة معها، إلى الفرصة التاريخية السانحة لتخليق وتعزيز مرتكزات نفوذها خارج إطار المعايير الواقعية العادلة للتمثيل المجتمعي والسياسي، ومنحها الاعتراف والاعتبار السياسي المحلي والدولي وما يتبع ذلك، وإكسابها من خلال ذلك المشروعية السياسية، ومنحها أدوار غير مبررة توظف لخدمة أغراضها الخاصة المجافية لأسس بناء الدولة الحديثة وتحقيق الصالح العام، وتحويلها بذلك إلى كيانات شبه مؤسسية ضمن البنية السياسية العامة للدولة، ومن ثم العبث السياسي بعناصر التنوع المجتمعي، وإطلاق حالة استقطاب سياسي شديد وواسع النطاق صراعي الطابع، يهز مرتكزات السلم الاجتماعي ويجعل وسائل ومظاهر الاستقطاب الفئوي والمناطقي والتهييج العاطفي ضمن وسائل العمل السياسي الاعتيادية ولعقود عديدة قادمة إن بقي للدولة اليمنية وجود، وتحويل اليمن بذلك إلى تركيبة متحجرة من الكانتونات السياسية الفئوية بما فيها القبلية والمناطقية، الدكاكينية الطابع ذات الهيمنة الأبوية للبيوتات والأسر...أعتى وأمر من ما هو موجود في التجربة اللبنانية. 3- تحفيز القيادات وجماعات المصالح الفئوية والحزبية والمناطقية والمصالح المرتبطة بها على تعميق حالة الوعي الفئوي أو المناطقي العام بأسس تميز أي منها عن بقية فئات المجتمع، والمبالغة في تصوير طبيعة التناقضات بينها وبين بقية الفئات، واكساب هذه التناقضات مظامين استراتيجية مصلحية وعاطفية وحتى أخلاقية لا يدعمها ولا يبررها الواقع، وذلك لظمان وتعزيز التظامن والولاء الفئوي باعتباره أهم مرتكزات هيمنة ونفوذ القيادات الفئوية سواء داخل الفئة المعينة أم ضمن البنية السياسية العامة للدولة، واكساب عملية بناء الوعي الفئوي هذة أدوات التعميق والاستقواء الذاتي خلال الزمن، وبث ومراكمة الحساسيات والأحقاد والعقد بين أبناء المجتمع الواحد. 4- التجاوز على حق الشعب الديموقراطي في تحديد خياراته الاستراتيجية التي لعلها الأهم والأبعد أثراًعلى مدى تاريخه كله قديمه وحديثه، وتقرير ذلك من خلال الحوار الذي لم يحضره الشعب ولم يحدد شروطه وكيفياته ولا مبتداه أو منتهاه، والذي تتحدد فيه الصفات والأدوار على أساس معطيات الأمر الواقع في مجال قدرات ممارسة العنف اللامشروع أو في مجال التهويل الإعلامي الذي أكثر ما يعكس هو النفوذ الإعلامي، ولم تثبت أسسه الواقعية في أوساط الشعب، ومع أن الشعب ليس على أي نحو شريك في لعبة صراع مجموعات المصالح ومراكز النفوذ التي لا يربط معضمها بالشعب أو بمصالحه رابط حقيقي يذكر. 5- الإجهاز على هدف بناء الدولة المدنية الحديثة، وذلك من خلال تأصيل نفوذ القوى وجماعات المصالح المعادية لبناء الدولة اليمنية الحديثة عن وعي أو عن غير وعي، ومن خلال تأصيل مرجعيات وأساليب العمل السياسي المناقضة لمتطلبات بناء دولة المواطنة المتساوية والفرص المتكافئة وسيادة القانون، واستبدالها إما بدولة مراكز ومشيخات النفوذ التقليدية فئوية (بما فيها القبلية) أم مناطقية أو الحرب الأهلية. إن المحصله النهائية لكل ذلك هي الإسهام الفاعل في توسيع وتأصيل وتنظيم وتحفيز مرتكزات الصراع المجتمعي متعدد البؤر والأبعاد، ومنحة الحوافز المصلحية والأطر المؤسسية وأسس المشروعية السياسية ومشروعية التمثيل الفئوي أو المناطقي، وكذا المشروعية الدولية، ومده بوسائل العمل وبمقومات الفاعلية التي ما كان يحلم بها بدون الحوار، وكما أن الحوار يسعي إلى التركيز المتحيز لانتقاء القوى والشخصيات ذات الأجندات الخاصة، وتحفيزها للتوافق فيما بينها لتعزيز حضورها وفاعليتها، ومن ثم منحها الصفة الاعتبارية في تمثيل فئة ما من غير مجرد السؤال عن رأي هذه الفئة، ثم الدخول معها في حوار استراتيجي حول مستقبل البلد كله، كل ذلك حتى من قبل السؤال عن ما إذا كان هؤلاء يقرون بالانتماء والولاء المبدئي للوطن أم لا، وهو ما يشبه سعي شخص ما لحفر هوة سحيقة في منتصف طريقه بغرض محاولة عبورها، وهذا إن صح فلعله نهج لا يعد إلا بالويل والثبور وعضائم الأمور، فهو في أفضل حال سوف يؤدي إلى تحول اليمن إلى نسخة أكثر تعقيداً وتحجرًا وأقل مرونة وتمدناً عن النموذج اللبناني، وفي أسوأ حال فهو أشبه ما يكون بحشو اليمن بحزام ناسف يمكن تفعيله بفتيل الحوار الفاشل، الذي يمكن أن يضع اليمن ككيان وكدولة في اتجاهة الأخير نحو التدمير الذاتي من خلال حروب لا تبقي ولا تذر إذ لا يمكن ولا يتصور أن يجري تمزيق اليمن بدون حرب (أو حتى بحرب). أما ما يتعلق بإمكانية وأسلوب وشروط تجنيب الحوار هذا المآل المفزع وتأهيلة للدور الوطني المرتجى منه، فنحن نعتقد أن هذا ممكن من حيث المبداء إذا ما تم تجنب المحاذير السابق الإشارة اليها وتحصين الحوار بالمقومات الحقيقية لإنجاحه ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي: 1- تطوير ما يمكن تسميته بمرجعية الصالح العام وتتضمن الأسس والضوابط والأهداف التي يعتبر الخروج عنها مساساً بالمصلحة العامة، وجعل هذه المرجعية ملزمة للحوار وللمتحاورين جميعاً، والإعلان عنها للشعب وتوعيته بأهميتها، وبدوره بمختلف كياناته وأفراده (بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني) في ممارسة الرقابة الصارمة للتأكد من الالتزام بها، وفي الدفاع عنها باعتبار أن الشعب هو حاميها الأكبر والأخير. 2- توسيع وتنويع قاعدة المشاركة الفعلية (وليس الشكلية) في الحوار على الأسس وبالكيفية التي تمكن من التعبير عن إرادة ومصالح مختلف فئات الشعب على نحو متوازن وعادل، وإزالة إي حيف أو تحيز لمصلحة أطراف الصراع الدائر وتحالفاتهم، وجماعات المصالح المنظمة والنافذة، التي تمتلك وسائل الاستقواء والابتزاز والإيذاء السياسي والأمني للمجتمع، وتمتلك الجراءة الأخلاقية والمسلكية لتوظيفها لخدمة مصالحها وأجنداتها الخاصة. 3- التأكيد عل أن لا يتمخض عن الحوار أي خيارات أستراتيجية بشأن كيان الدولة اليمنية وخيارات بناءها الذاتي المستقبلية، وأي حقوق استثنائية فئوية كانت أو مناطقية، وجعل هذه القضايا منوطة بالشعب يقررها من خلال مؤسساته الدستورية في ظل الظروف الاعتيادية، وخارج إطار أي وضع استثنائي يتيح الاستقواء أو الابتزاز أو الالتفاف على الإراة والمصلحة العامة. 4- الحيلولة بكافة الوسائل دون تحول المرحلة الانتقالية الراهنة إلى مرحلة تأسيسة لترسيخ هيمنة القوى المسيطرة حالياً على مفاصل الدولة وقدرات ممارسة العنف في المجتمع، من خلال الاستقواء على المجتمع ومحاربته في قوته وغير ذلك من ضروريات الحياة كالكهرباء والدواء والتعليم والشارع الآمن والطريق السالك....، ومن ثم رسم نهج التحولات السياسية المستقبلية على النحو الذي يعزز مرتكزات نفوذها على المدى الطويل، والتأكد من إتاحة بيئة مواتية لتفاعل القوى السياسية والمجتمعية، على النحو الذي يعزز فرص التفعيل العادل للإرادة الشعبية ولأسس ومرتكزات بناء الدولة، وجعل المصلحة العامة هي مرجعية الفعل السياسي وغايته الأولى. إننا نؤمن بالأهمية بل وبالضرورة الاستراتيجية للحوار لإخرج اليمن من النفق المظلم الذي تتخبط فيه، ونتمسك به لذلك، ولكننا نؤمن كذلك بأن الحوار الفاشل هو بالفعل طريق الى الكارثة الوطنية الكبرى، وأن عدم الحوار وكسب الوقت لمصلحة بناء وتقوية الدولة واستعادة هيبتها وتمكينها من ممارسة دورها في حماية مصالح الوطن هو رغم كل المحاذير أفضل من الحوار الفاشل، على أننا نعتقد أن من الممكن تصميم وتفعيل الشروط اللازمة لحوار ناجح، ونعتقد أن في اليمن من الحكماء والمخلصين من يجرؤ ويقدر على ذلك، ولذلك فإننا ندعو إلى جعل هذا الموضوع بالذات أي تحديد مقومات وشروط إنجاح الحوار، وماهية ومكامن الخطر الممكنة في إطاره، موضوعاً للتناول الجاد والمسئول والمنظم من قبل جميع المهتمين بالأمر، وذلك قبل الدخول في موضوع الترتيبات اللوجستية والتخريجات التصالحية لضمان حدوث الحوار شكلاً، حتى على حساب دوره ومضمونه ونتائجة، وحتى إن أدى في المحصلة إلى أسواء ما يمكن أ ن يكون.