ليس ثمة جديد في القول إن التأثير العربي في السياسات الدولية يكاد يؤول إلى الصفر. وأي استعراض سريع للقضايا العولمية الكبرى التي تواجه العالم اليوم يشير، ضمن أشياء أخرى، إلى الموقع القيادي لمجموعة من الدول والقوى الكبرى، وإلى الموقع التابع لبقية دول وقوى العالم. ومن غير المنطقي هنا افتراض تأثير متساوٍ بغض النظر عن المكانة والقوة السياسية والاقتصادية لدولة مثل الولاياتالمتحدة مقارنة بدولة مثل سيراليون. وهناك حالات فارق في الحجم والتأثير لا تحتاج إلى نقاش، وتُستنج بالبداهة. لكن النقاش يثور ويصبح مُلحاً جداً في الحالات الخاصة بالدول ذات الحجوم المتوسطة أو الدول التي يمكن افتراض أنها تأتي في الطبقة الثانية من ناحية القوة الاقتصادية والتأثير المتوقع. ففي هذه الحالات يصبح قياس التأثير وافتراضه أمراً مشروعاً ومطلوباً. وفي السياق العربي لا نتوقع ولا نطلب أن يكون تأثير أي دولة من الدول العربية ومساهمتها في السياسة الدولية موازيين لتأثير ومساهمة الولاياتالمتحدة أو بريطانيا أو إسبانيا، لكن من غير المقبول أن يكون ذلك الدور والتأثير بمستوى دولة مثل سيراليون. والدول العربية الكبرى يُتوقع منها أن تكون على نفس مستوى النشاط والتأثير السياسي لدول مثل البرازيل والهند والمكسيك وإسرائيل. وفي صوغ السياسات العالمية سواء في الاقتصاد أو البيئة أو التسلح أو غيرها تتأثر الدول بخلاصات تلك السياسات بحسب حجومها وعدد سكانها واقتصاداتها المتشابكة، ولهذا تحرص على أن يكون لها نصيب مهم في صناعة القرار. والدول التي لا تصارع بما فيه الكفاية لتأمين المساهمة في صناعة القرار (وليس فقط الحضور لحظة التوقيع عليه) تفرّط بشكل أو بآخر في مصالحها القومية وتواجه خسارات مباشرة ومستقبلية. وليس هذا فحسب، بل إن تداخل المصالح وتشابك السياسات المحلية والإقليمية والدولية صار يحتم على الدول والقوى المختلفة الاهتمام ومحاولة التأثير في مسار سياسات وتوجهات تبدو للوهلة الأولى بعيدة جغرافياً ومصلحياً عنها. لماذا تهتم دول مثل البرازيل والهند والمكسيك وإسرائيل بالقرار النهائي في الاتحاد الأوروبي حول من سيرأس الاتحاد ومن سيكون وزير خارجيته، في حين نعلم جميعاً أن المنصبين سيكونان أقرب إلى البروتوكولية منهما إلى الفاعلية السياسية الحقيقية؟ ولماذا لم نرَ أي اهتمام عربي رسمي جدير بالملاحظة خلال مرحلة التنافس الشديد بين المرشحين على تولي تلك المناصب؟ كم هو حجم المصالح العربية الاقتصادية والمالية والسياسية مع دول الاتحاد الأوروبي، وألا تستحق تلك المصالح جميعاً تبني سياسات ناشطة وهجومية وتتجه نحو التأثير في السياسات المستقبلية للاتحاد؟ كثير من الخبراء الذين يعملون في الأقسام الخاصة بالشرق الأوسط في مقرات الاتحاد الأوروبي في بروكسل ولكسمبورغ يتعجبون من الغياب العربي المذهل ليس فقط عن محاولة التأثير في سياسات الاتحاد العامة كما تحاول بقية الدولة الكبرى والمتوسطة، بل وأيضاً في السياسات الخاصة بالشرق الأوسط نفسه. ربما يبدو السؤال حول غياب العرب عن السياسات الدولية الكبرى مُبالغاً فيه، ذاك أنهم يغيبون عن تلك السياسات الإقليمية والمحلية التي تؤثر مباشرة في مستقبل منطقتهم وبلدانهم، ويظهرون عجزاً ولامبالاة صاعقة. ومن فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان يستقيل العرب بشكل شبه تام تاركين القرار في هذه القضايا الثلاث الساخنة بيد القوى الكبرى، التي تقرر وتنفذ تبعاً لمصالحها هي، وكأن ما يحدث الآن وما قد تتطور إليه الأمور في المستقبل لا يعني الدول العربية. ولسنا بحاجة لأن نتذكر ونقارن العجز واللامبالاة العربية بالفاعلية التركية والإيرانية على المستوى الإقليمي وملاحظة منحنيات الصعود هنا والانحدار هناك.
هل يمكن فعلاً إيجاد جواب على السؤال التقليدي والممل الخاص بغياب العرب وتحولهم إلى أصفار في معادلة السياسات الدولية والإقليمية؟ أم أن السؤال يعاني من خلل بنيوي يقوم على فرضية مواصلة انتظار "موقف عربي" أو "قرار عربي" أو "تحرك عربي" موحد تجاه القضايا المختلفة. هناك بطبيعة الحال "مواقف عربية" و"قرارات عربية" و"تحركات عربية" تجاه أي قضية مطروحة إقليمياً أو دولياً، وموقف كل دولة هو خلاصة تقدير المصلحة الخاصة بها. ولكن الافتراض البراغماتي هنا يقول إن الدول المنتمية لأي إقليم جغرافي واحد لها مساحة من المصالح المشتركة تفوق المساحة التي قد تنشأ مع الدول والكتل الأخرى، أو على الأقل تتساوى معها في الأهمية. ومن هذا المنطلق لا من غيره يتم افتراض وجود حدود دنيا من التأثير والحرص على الدفاع عن تلك المصالح المشتركة.
وإذا رفضنا حتى هذا الافتراض الأخير الذي يقوم على أسس براغماتية بحتة، بعيداً عن شعارات الأخوة والقومية العربية والهوية المشتركة وسوى ذلك، فإننا ننتهي إلى تحليل واحد فقط هو التالي: مجموعة الدول التي تنتمي إلى منطقة الشرق الأوسط مُعرّفة بمصالحها الوطنية فقط، وكل دولة تتدافع مع الدول الأخرى، المجاورة أولاً، لتحقيق تلك المصالح. كما أن هذه الدول تعبر عن نفسها في الساحة الدولية منطلقة من تلك المصالح الوطنية فحسب، من دون اعتبارات كتلوية غير مصلحية. وليس هذا بالجديد بطبيعة الحال وهو الأكثر تبنياً في الوقت الراهن والتحليل السائد. ولكنه هو الآخر يعجز عن تفسير العجز واللامبالاة وإدارة الظهر للمصالح الحيوية.
ومرة أخرى يطرح مثال الاتحاد الأوروبي حالة دراسة طافحة بالمرارة. فهنا تزدحم مكاتب السفارات والممثليات العربية في العاصمة البلجيكية، ولكن حاصل جمع التأثير لا يتعدى الصفر بكثير. وأحد الخبراء المتعاطفين مع العرب وقضاياهم يكاد ينفجر وهو يقارن بين نشاط السفارة الإسرائيلية وموظفيها القلائل مع السفارات العربية وجحافل موظفيها.