اضحى الرئيس عبدربه منصور هادي لشهور خلت يدير شؤون الدولة من منزله الكائن في شارع الستين. لايبدو وفق تقديرات عدة ان الرجل عازم على مبارحه منزلة الأثير المحاط بجنود الفرقة الاولى مدرع من جميع النواحي.
جل المؤشرات تؤكد ان عبدربه قد إعتاد منذ شهور على إدارة شؤون البلاد من منزله ولم يعد يحبذ مغادرته.
إصراره على البقاء في منزله لايبدو ناتجاً عن رغبة ذاتية او قناعة شخصية، للمسألة في الواقع علاقة بتصاعد مخاوفه جراء التحذيرات والتقارير الأمنية التي ما إنفكت تشعره بوجود مخططات عديدة لإغتياله، وهي تحذيرات أدت الى احاطة الرجل بأجواء من الرعب والخوف الشديد.
على مدى الاشهر المنصرمة ظل الرئيس هادي يتلقى تحذيرات منتظمة عن مدى التهديدات والمخاطر التي يمكن ان يتعرض لها أمنه الشخصي.
لقد شكلت هذه التحذيرات تعليلاً رئيسياً في وصول الرجل الى قناعة إجبارية بضرورة البقاء في منزلة وعدم مبارحته سوى للأهمية القصوى.
ثمة تأكيدات تشير الى ان الرجل عاش أجواء حقيقية من الخوف والرعب جراء تلك التحذيرات وتحديداً تلك المرفوعة إليه من الجهاز المركزي للامن السياسي الذي يديره الجنرال غالب القمش لعقود خلت من الزمن.
وفق معطيات الواقع، لايبدو ان تلك التحذيرات مبنية على أساس حقيقي يدعم صدقيتها، لاسيما إذا ما علمنا ان الجهات المُحذر منها هي في الغالب المؤسسات المستحدثة في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
مخطط السيطرة على الرئيس لشهور خلت، يُلاحظ ان أرباب تلك التحذيرات وتحديداً في الامن السياسي يحاولون بكل الطرق والوسائل عزل الرئيس هادي عن جماهير شعبه بموازاة الحيلولة دون تمتعه بالمرونة اللازمة التي تمكنه من الإلتقاء بأبناء شعبه ومعالجة قضايا المواطنين والإلتحام بالجماهير.
تحت مبرر الحرص على حياة الرئيس وسلامتة، ينفذ هؤلاء مخطط عزل هادي عبر إبقاءه في منزله بحجة ان حياته معرضة لخطر وشيك، في حين ان معطيات الواقع تؤكد وجود غايات اخرى لهذا المخطط يمكن إيرادها في اربعة محاور اساسية:
أولها: بما ان السيطرة على تحركات الرئيس يمكن ان تجسد مدخلاً للسيطرة على قراراته وسياساته، فإن أرباب ذلك المخطط يتطلعون الى السيطرة على الرئيس هادي عبر إبقاءه في منزلة والحيلولة دون إحتكاكه الدائم بالمواطنين، بموازاة الإكتفاء بمعرفته لأوضاع ابناء شعبه من خلال التقارير والملخصات التي يعدها ارباب ذلك المخطط.
ثانيها: خلق حالة من الرعب والخوف الشديد لدى الرئيس هادي وذلك بهدف تمكين صانعي هذة الحالة والمقصود بهم هنا الامن السياسي من استعادة سلطاتهم المطلقة التي نازعتهم فيها مؤسسات اخرى كالأمن القومي إبان عهد الرئيس صالح.
في هذه الجزئية يمكن القول ان هؤلاء يحاولون إيهام رئيس الجمهورية بأنهم حريصون على سلامته ويناضلون من اجل الحفاظ على حياته، وهو ما سيمكنهم في المقابل من حصاد ثقة الرئيس تمهيداً للحصول على تفويض رئاسي يعيد إليهم جانباً واسعاً من السلطات التي فقدوها في عهد الرئيس السابق.
ثالثها: حصاد ثقة الرئيس يعني ان هؤلاء سيكونوا قادرين على تمرير العديد من الترشيحات والتعيينات لكوادرهم ورجالهم في مختلف مناصب وقطاعات الدولة، ولأنه أمر قد تم فعلاً، فإنه ينم عن نزعة إستحواذية تناضل من اجل اخضاع الدولة لسلطة هؤلاء وبالتالي نجاح مخطط إعادة انتاج مراكز النفوذ القديمة التي كانت تدير البلاد في إطار ما كان يعرف ب(المركز المقدس).
رابعها: إحداث حالة من التصدع بين الرئيس هادي والمؤسسات الأخرى المُستحدثة في عهد الرئيس صالح وتحديداً الحرس الجمهوري والامن القومي وباقي المؤسسات الاخرى وتكريس حالة من العزلة بينها وبين الرئيس.
هنا يمكن الجزم قطعياً بأن ارباب هذا المخطط في معظم تحذيراتهم وتقاريرهم يوجهون أصابع الاتهام الى هذه المؤسسات ويحاولون تأليب الرئيس هادي ضدها وتصويرها وكأنها مؤسسات معادية للرئيس هادي تحاول النيل من حياته وتسعى لتخليق اوليات فشله وتقويض امساكه بزمام الإدارة في البلاد.
طرح كهذا ربما كان قابلاً للتصديق خلال فترات منقضية وتحديداً تلك السابقة لحدثين رئيسيين أولهما: التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وثانيهما: الانتخابات الرئاسية المبكرة.
خلال فترة ما قبل الحدثين كان بوسعنا الى حد ما تصديق اي تحذيرات من وجود مخططات تستهدف الرئيس هادي، غير ان الواقع اللاحق للحدثين يؤكد ان هذه التحذيرات لم تعد قابلة للتصديق بتاتاً.
هنا لعلي لست مبالغاً بزعمي ان تلك التحذيرات اضحت مثيرة للسخرية هذا إن لم تكن محض مخاوف وهمية لا تستند إلى اي وقائع او معلومات حقيقية، وذلك على الرغم من انني شخصياً اشعر بأنها أقرب ما تكون إلى الخيال منها الى الواقع العملي، وإن شئنا الدقة اكثر فهي لا تعدو ان تكون محض بنات أفكار لأرباب ذلك المخطط.
مخاوف وهمية ليس اكثر بوسعنا إيراد تعليلات كثيرة للتأكيد على انها مجرد مخاوف وهمية اكثر من كونها حقائق واقعية، وبوسعنا ايضاً حصر تلك التعليلات في محاور عدة.
اولها: ثمة إقرار كامل من قبل المؤسسات المُستحدثة في عهد الرئيس السابق وقياداتها بأن عبدربه منصور هادي هو رئيس الجمهورية والقائد الاعلى للقوات المسلحة ولا يوجد اي اعتراض على هذا إطلاقاً.
ثانيها: جميع قيادات تلك المؤسسات أكدت امتثالها لتوجيهات هادي بما في ذلك استعدادها للرحيل متى ما اراد الرئيس ذلك.
ثالثها: لو كانت تلك المؤسسات تحاول فرضاً النيل من عبدربه لأقدمت على تنفيذ ذلك قبل وصوله الى رئاسة الجمهورية وليس الآن والاسباب هنا جليه وليست بحاجة لتوضيح.
رابعها: الرئيس هادي يحظى بإسناد إقليمي ودولي مطلق ولايمكن لأي جهة او مؤسسة رسمية ان تفكر مجرد تفكير في تعريض حياته للخطر.
خامسها: جميع جهات ومؤسسات الدولة تدرك تمام الإدراك ان الرئيس هادي خط أحمر بإعتباره رئيساً منتخباً للبلاد وقائداً اعلى للقوات المسلحة والأمن ولايمكن المساس به، كما ان جميع المؤسسات تدرك بأن أي محاولة للمساس به ستكون لها عواقب وخيمة وتداعيات خطيرة لايمكن إحتوائها على الاطلاق.
لماذا يخشى هادي من الانتقال لدار الرئاسة ثمة وقائع كثيرة تشير الى ان أرباب ذلك المخطط قد حققوا العديد من الغايات والتطلعات التي كانوا يناضلون من اجل تحقيقها، فعبدربه بات يعتمد إعتماداً كبيراً على هؤلاء في إدارة وطباخة جانب واسع من السياسات والقرارات، كما انه أضحى يثق بهم على حساب المؤسسات الأخرى وهو ما جعله يبدو أشبه بمنفذ لإرادة ورغبات هؤلاء الذين ما إنفكوا يشعرونه بالخطر الدائم ويستغلون أجواء الخوف التي صنعوها للإستحواذ على الرجل وتوسيع دائرة سلطاتهم بالتدريج!
على ان هواجس الرعب والخوف لا تعني عدم وجود تعليلات أخرى تسببت في تحويل هؤلاء الى صُناع لمعظم السياسات والقرارات الرئاسية.
يمكننا هنا إيراد تعليلات اخرى كانت سبباً في استعادة رجال الحرس الأمني والعسكري القديم لجانب واسع من السلطات.
أول تلك التعليلات يرجع الى التحالف القديم الذي كان قائماً بين كل من الرئيس هادي بإعتباره ابرز قيادات الزمرة في الحزب الاشتراكي والجنرالان علي محسن وغالب القمش باعتبارهما الرمزان العسكري والأمني للدولة القديمة وذلك في إطار تحالفات مراكز القوى المهيمنة في المركز المقدس إبان عهد الرئيس السابق.
ثاني تلك التعليلات: يرجع الى وجود العميد ناصر منصور هادي شقيق الرئيس هادي في قيادة الجهاز الامني القديم (الامن السياسي) الذي يستميت بقوة من أجل إستعادة السلطات التي فقدها في عهد صالح.
ثالث تلك التعليلات يكمن في خشية عبدربه من التداعيات المترتبة على محاولته نسج تحالفات مع المؤسسات الأخرى المُستحدثة في عهد الرئيس السابق، إذ انه يخشى من تحركات إنتقامية يمكن ان تنفذها المؤسسات القديمة (الامن السياسي والفرقة الاولى مدرع) في حال ما إذا قرر الإقتراب من المؤسسات الحديثة (الحرس الجمهوري والامن القومي).
أتذكر هنا ان احد الساسة ساق سبباً يحول دون إنتقال الرئيس هادي الى دار الرئاسة بصورة دائمة، حيث اكد ان إصراره على البقاء في حماية المؤسسات القديمة (الأولى والسياسي) يكمن في خوفه منهما في حال ما إذا قرر الإنتقال الى دار الرئاسة، ويزعم صاحب هذا الرأي أن هادي يخشى من احتمالات تعرضه لمحاولة اغتيال يمكن ان تنفذها المؤسسات القديمة (السياسي والاولى) في حال ما إذا إنتقل الى دار الرئاسة حيث سيتم إلقاء اللائمة على (الجمهوري والقومي)!!.
هل اصبح هادي معزولاً عن الشعب المكوث الطويل لهادي في منزلة وخشيته من الإلتحام بالجماهير والإلتقاء بأبناء الشعب جراء المخاوف والتحذيرات الأمنية المرفوعة من الجنرال القمش يعيد إلى الأذهان قصة السيطرة على تحركات الرئيس جمال عبدالناصر التي كان ينفذها رئيس جهاز امن الثورة صلاح نصر، لقد كان هذا الاخير يتحكم في جميع تحركات عبدالناصر بحجة انه مستهدف بالاغتيال، ووصل به الحال حد رفع تقارير وهمية بهدف منع عبدالناصر من حضور فعاليات شعبية عديدة وذلك في إطار تكتيكات الحد من الالتحام بين عبدالناصر وملايين المصريين، ثمة رواية شهيرة عن هيمنة صلاح نصر على تحركات عبدالناصر، تقول الرواية ان صلاح نصر كان يقول للمقربين والمقربات منه انه مسيطر على عبدالناصر تماماً ويستطيع ان يمنعه من حضور اي فعالية شعبية او جماهيرية، وذات مرة قام بتأكيد هذا عملياً امام بعض المقربين والمقربات حيث اتصل بجمال عبدالناصر وقال له: يا سيادة الريس عندي معلومات خطيرة ان جهاز الموساد الاسرائيلي يخطط لاغتيالك غداً في الخطاب الذي ستلقيه، لذا مافيش داعي تروح تلقي هذا الخطاب!، فوافق عبدالناصر على رأي صلاح نصر، اغلق صلاح نصر سماعة الهاتف ونظر الى من كانوا بجواره وقال لهم بالمصري: مش قلت لكم عبدالناصر دمية في ايدي احركه زي ما بحب!! وجه التشبيه بين الامرين يكمن في الدور الذي يؤدية الجنرال غالب القمش مع الرئيس عبدربه منصور هادي، لقد اصبح القمش يتحكم في جميع تحركات هادي، وبات يرفع اليه تقارير وهمية دورية عن وجود محاولات لاغتياله لدرجة لم يعد فيها هادي قادراً على مغادرة منزله، وهو ما ادى لإيجاد حالة من الانفصام بينه وبين الجماهير، واضحى يقال ان عبدربه معزول عن الشعب!
بين حازم وغالب يبدو حال الرئيس هادي شبيهاً بقصة الرئيس الواردة في فيلم (طباخ الريس)، حيث يحاول حازم (والمقصود به هنا غالب) السيطرة على تحركات الرئيس وعزله عن أبناء شعبه والحيلولة دون وصول أي معلومات إليه عن الاوضاع المأساوية التي يعيشها ابناء شعبه وذلك في محاولة لحماية المراكز النفوذية القائمة وإعاقة اي تغييرات يمكن ان يُحدثها الرئيس وبالاخص لتلك القيادات المُعتقة التي تتبوأ مواقعها القيادية لعقود خلت.
وماذا بعد رغم أني شخصياً أشكك في مصداقية التحذيرات الأمنية حول حياة عبدربه وأخالها محض تحذيرات وهمية، إلا انني بإفتراض وجود نسبة من الواقعية فيها لا اظن انها تبرر بأي حال من الاحوال بقاء الرجل في منزلة وعدم انتقاله الى دار الرئاسة او على أقل تقدير قيامه بزيارات ميدانية سواءً على مستوى العاصمة صنعاء او على مستوى المحافظات وذلك لتلمس احتياجات المواطنين والإطلاع عن كثب على معاناتهم لاسيما ونحن نوشك على استقبال شهر رمضان المبارك.
عبدربه في نظر الجميع هو المسؤول الاول والاخير عن عموم ابناء الشعب اليمني بإعتباره رئيس الجمهورية، ويفترض به ان لا يسمح لغالب القمش بعزلة عن ابناء شعبه والحيلولة دون إلتحامه بالجماهير بحجة ان حياته في خطر.
ليس من اللائق في حق رئيس جمهورية وقائد أعلى للجيش والامن ان يظل حبيساً لجدران منزله على طريقة مقولة عادل إمام في مسرحية الزعيم: عاوز اكون ريس من منازلهم!
ينبغي ان يباشر عبدربه في إجراءات كسر طوق الحصار المفروض عليه من قبل المؤسسات القديمة، وينهي حالة المكوث الطويلة في منزلة والتي باتت اشبة ما تكون بإعتقال وإقامة جبرية وذلك حتى لا يتفاجئ في الانتخابات الرئاسية القادمة بأن شعبيته شبة منعدمة وكفى!