عندما كنت محرراً في وكالة أنباء عدن قبل عقود خلت، تعلمت أن الخبر لا يُقرأ بذاته، بل بخلفياته الظاهرة والمستترة، وكانت الأخبار المتواترة من مختلف أنحاء العالم تشي بما وراء الآكام والهضاب، فيما تبدو بسيطة واضحة ومباشرة. أتذكر هذه البديهيات ونحن في زمن المعلومة المتدفقة، وبورصات الأخبار متعددة الأهداف والطرائق، وغرائبية الأحوال في المشهد السياسي العالمي، الذي يجمع بين الحقائق الصاعقة والافتراضات التي تربك الخيال في مآلاتها المحتملة.
هذه الأيام تنخرط الصحف البريطانية في ماراثون للمتابعة والتحليل وتقديم الافتراضات الممكنة، وذلك عطفاً على اعتصام مؤسس موقع ويكيليكس الإخباري، في السفارة الإكوادورية في لندن. والمُعلن في الظاهر، بناء على مسوغات قانونية مؤكدة، أن الرجل مُطالب بالمثول أمام محكمة سويدية بوصفه متهماً بتهمتي الاعتداء والاغتصاب الجنسي، لكن هذه المحكمة بحسب المراقبين العليمين، ليست إلا العتبة المباشرة لتسليمه اللاحق للولايات المتحدة، وهنا مربط الفرس.
تجاوز الرجل قواعد اللعبة، ولم يكتف بالحصول على المعلومات، مُستفيداً من عبقرية الوسائط الرقمية القادرة على تفريغ ملايين الصفحات الرقمية في ومضة من استدعاء تقني معلوم.. لم يكتف الرجل بذلك، بل سارع إلى تعميم تلك المعلومات السريّة، ليتحول إلى اسم عالمي يُشار له بالبنان، وهدف استخباراتي مطلوب.
تهمة الرجل الكبرى أنه توصل إلى معلومات ما كان ينبغي له أن يعرفها، ناهيك عن تعميمها الفاضح على نطاق العالم، وأن يُباشر كشف المستور في زمن أصبحت فيه المعلومة تمثل سلطة حقيقية دونها خرق القتاد.
معلومات ويكيليكس كانت صاعقة لعديد الدول، وأثارت النقع في كل أروقة القرار السياسي في العالم، كما كشفت الثغرة القاتلة في نظام المعلومات والأرشفة السرية في أعتى وأكبر الدوائر المعلوماتية الدولية.
لم تكن مأثرة ويكيليكس الفضائحية مقتصرة على كشف المعلومات، بل أيضاً تعرية الأنظمة الإدارية التي ظلت تتعامل مع المعلومات الخاصة جداً وفق نواميس القرن العشرين، مُتناسية أن الأراشيف الورقية القديمة كانت عصيّة على الاستيلاء، لكن أراشيف العصر الرقمي الالكتروني لا تتمتع بتلك الميزة الحيوية، وإن فرضية تفريغها في لحظات أمر وارد، وهذا ما فكر فيه وأدركه مؤسس ويكيليكس، حيث تمكن من جمع ملايين الصفحات في رابعة من نهار، ليُربك استراتيجيات الخفاء والتجلّي لصُناع المشهد السياسي الدولي، وفي مُقدمتهم الولاياتالمتحدة.
هذه هي الحقيقة المرعبة التي يعترف بها سدنة الأراشيف العالمية الأكثر حساسية وخطورة، وتلك هي التهمة الكُبرى التي تطال مؤسس ويكيليكس، وما عدا ذلك من تخريجات وسيناريوهات ليس سوى الوجه المُعلن للخبر، ومفاده أن المؤسس للموقع يتحصن في السفارة الإكوادورية، وأنه مطلوب للمثول أمام محكمة سويدية، لكونه متهماً بالاعتداء والاغتصاب الجنسي.
ومهما يكن من أمر فإن الهدف الجوهري للمتضررين الاستراتيجيين، يتحقق عملياً لمجرد وجود المتهم المطلوب في السفارة الإكوادورية، متقمصاً ثوب الهارب من العدالة، كما أن بريطانيا العتيدة في احترامها للقوانين، لن تتخطّى قانون الحصانة الدولية للسفارات، ولكنها ستعمل حتماً على منع المتهم المطلوب من المغادرة، حتى وإن ظل قابعاً في مربع حبسه الدبوماسي الاختياري لعشرات السنين. وفي المقابل سينتهي مسلسل ويكيليكس، فيما ستصل الرسالة إلى كل من تسوِّل له نفسه المغامرة في اللعب على ميادين الكبار، واختراق الحجب، والتطلع لما وراء الآكام والهضاب العالية.
وهكذا ستنتهي لعبة ويكيليكس لتدخل التاريخ كما لو أنها بارقة عابرة، أو ملهاة لا تخلو من مأساة، بينما سيعمل سدنة المعلومات الأكثر حساسية وخطورة، على الاستفادة من التجربة المريرة، وإعادة النظر في ثوابت العمل المعلوماتي، بل الاحتساب الدقيق لمفاجآت الأجهزة الرقمية الذكية، ومن يعمل فيها من أفراد ليسوا بمنأى عن الإصابة بسيكوباتزم القوة المعنوية، النابعة من الاستحواذ على الحقيقة الغائبة عن الناس.
لم تعد احتمالات اللوثة الكبرى في العالم نابعة من ضباط الصوامع النووية، الذين يخيفون من أوكل إليهم أخطر المهام التدميرية المستحيلة عقلاً ومنطقاً، بل أصبحت المعلومات المنفلتة من عقالها تمثل فزّاعة كبيرة، لأنها تتقاطع مع سلطة الإعلام العالمي، والمؤثرات النفسية على الجماهير، وخوارق الوسائط المتعددة بتمظهراتها المختلفة، مما رأينا شاهداً من شواهده في أحوال الربيع العربي.