(1) ليس هناك مثل الأنظمة الشمولية والفردية توحد ولاء مواطنيها.. ولكن باتجاه مضاد لها.. وفي ظرفة تتعلق بهذا السياق، يقال إن حاكما من هذه النوعية كان يخطب في أحد الاحتفالات.. ولاحظ رجال الأمن المنبثين في كل مكان رجلا كان يجلس بين المستمعين، وظل كل عدة دقائق يقف هاتفا بحياة الرئيس: (عاش رئيسنا موَّحد الأديان.. عاش رئيسنا موَّحد الأديان!) وأثار تصرفه استغراب رجال الأمن الذين سرعان ما سحبوه بالقوة إلى إحدى الغرف وسألوه عن سرَّ هذا الهتاف الغريب رغم أن البلاد فيها أديان متعددة! فرد الرجل موضحا سر هتافه: بأن سياسات الرئيس الفاشلة جعلت الشعب كله يكفر ويصير على ملة واحدة!
(2) على إثر التداعيات المؤسفة في صعدة، والمحافظات الجنوبية، والخلافات بين المؤتمر واللقاء المشترك.. اهتمت السلطة وأجهزة إعلامها بالحديث عن أهمية (الولاء الوطني)، باعتبار أن هذه الأزمات التي تمر بها البلاد يعود أحد أبرز أسبابها إلى وجود خلل في الولاء الوطني.. وبالطبع فإن المفهوم من كلامهم هذا أن الأطراف الأخرى هي التي تعاني من أزمة أو خلل في (الولاء الوطني)! وتبارت صحف المؤتمر والحكومة.. وتسابقت حتى شخصيات مقلة في كتاباتها للحديث عن الولاء الوطني وأهميته.. وألقى الجميع باللائمة –كالعادة- على المناهج التعليمية وأنها سبب مهم في وجود هذا الخلل! وقبل أن نناقش حملة الولاء الوطني هذه.. لا بأس من التنبيه إلى أن (المناهج التعليمية) في بلادنا صارت (ظهر ابن علوان) الذي يلقى عليه مسؤولية كل خلل ومشكلة بدءا من الإرهاب والعنف وانتهاء بالمرور وأزمة المياه ومرورا بالديكتاتورية وكراهية الصهاينة!.. والمبالغة واضحة في هذه الاتهامات.. فلو كانت المناهج التعليمية مؤثرة إلى هذه الدرجة لكنا شعباً لا يتحدث إلا بالفصحى نتيجة دراسة اللغة العربية لأكثر من 12 سنة.. ولما ظهر في البلاد من يغمز في الدين ويلمز في الأخلاق والآداب رغم قوة مادتي التربية الإسلامية والقرآن الكريم المقررتين طوال مراحل التعليم.. وعلى هذين المثالين يمكن قياس المسائل الأخرى لنتأكد من براءة المناهج من تهمة الإضرار بالولاء الوطني!.. وبالمناسبة إذا كان المسؤولون الوطنيون مهتمين جدا بدور المناهج التعليمية في تعزيز الولاء الوطني.. فلماذا إذا يسمحون بانتشار المدارس الأجنبية التي يعلمون فيها أولادهم؟ هل المدرسة الأمريكية –حيث درس ويدرس أبناء كبار المسؤولين الوطنيين- تهتم بتدريس الولاء الوطني وتعلم طلابها اليمنيين حب العلم اليمني والنشيد الوطني وتاريخ الثورات ونضال الأحرار؟
(3) من سوء حظ قيمة عظيمة كالولاء الوطني أن ينبري للدفاع عنها أو إظهار الحماس لها أفراد مشهورون بفسادهم السياسي أو المالي أو الإداري أو بأنهم يتحمسون للولاء الوطني لأنهم يقبعون فوق ظهور المساكين والعاطلين عن العمل والعاجزين عن علاج أبنائهم وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم! وربما كان ذلك هو مأساة الولاء الوطني في بلادنا وأمثالها من البلدان التي ابتلاها الله بسلطات تحكم شعوبها وفق سياسات ما انزل الله بها من سلطان.. سياسات تجعل البلاد والعباد مجرد (تركة) و(ملكية خاصة) للحكام وأقاربهم وأبنائهم.. ولذلك لا غرابة أن يكثروا من الحديث عن (الولاء الوطني) و(العلم الوطني) و(النشيد الوطني)! لأن كل ذلك يعني بالنسبة لهم الولاء لهم أولا وأخيرا!
وبمعنى آخر.. كيف يتصور هؤلاء أن أحاديثهم الطويلة عن الولاء الوطني تؤثر في الجماهير وهي تعاني الأمرين من سياساتهم؟ كيف يتوقعون أن يتأثر شباب عاطلون عن العمل، لأنهم لا يملكون وساطة، بأحاديث الولاء الوطني من الذين يعملون ليل نهار لضمان تولية أبنائهم وأقاربهم وظائف في الدولة رغم صغر سنهم وقلة خبرتهم؟ كيف نتوقع أن يكون حديث القوم عن الوطن والولاء له مفيداً أو ذا مصداقية والمواطنون يعيشون حياتهم في وطنهم في ضنك وشقاء وتعارك مع ظروف المعيشة والغلاء والفساد وانتشار الرشوة والمحاباة.. الخ الأمراض التي يعترف حتى المسؤولون بوجودها؟ أليس هؤلاء المسؤولون المفتونون بالولاء الوطني هم سبب هذه المصائب وأساس البلاء؟
(4) يصعب إنكار أن الولاء الوطني لدى سلطة المؤتمر مرتبط بالولاء لها.. فالوطني الجيد عندهم هو الذي يصطف خلف المؤتمر ويسبح بحمده ويلهج لسانه بالثناء على سياساته وقياداته حتى ولو خان.. وفسد وخرب.. وكان انفصاليا على رأسه دولار.. أو إماميا غارقا في لجة البطنين والحق الإلهي! وبدون ذكر أسماء فإن في قيادة الحزب الحاكم وفي مراكز التوجيه والإدارة من غرق في الدعوة للانفصال وعمل له حتى إذا بال الدهر وشرب عليه عاد إلى أحضان المؤتمر المثمرة هروبا من الوديان غير ذي الزرع فصار وطنيا ومحاضرا في الولاء الوطني! وهناك من دافع عن الوحدة وعادى الدنيا من أجلها ومع ذلك فهو مذموم مدحور متهم في دينه ووطنيته وولائه الوطني لانه يعارض مفاسد السلطة ويعمل على تغييرها سلميا في إطار الدستور والقانون!
ولقد بات معلوما من الولاء الوطني بالضرورة أن الدولة –نكاية بأحزاب واتباعا لسياسة: فرق تسد- قد مولت ودعمت جماعات مذهبية بعضها لا يؤمن بأسس النظام السياسي مثل الديمقراطية والتعددية السياسية ولا بالنظام الجمهوري.. بل إن الدولة قامت بطباعة كتب تكرس الفكر المذهبي المناقض للجمهورية وهي تحمل في طياتها تأصيل التوريث السلالي للسلطة!
أين كان الولاء الوطني عندما كانت أموال الدولة تتدفق باتجاه معاقل الحوثيين؟ وأين كان الولاء الوطني والولاء للدستور والقوانين والسلطة تولغ في الفساد والتلاعب بالانتخابات وتزوير إرادة الشعب، واحتكار مقومات الدولة المادية والمعنوية لصالح احتكار السلطة وتفريغ النظام الجمهوري والديمقراطية والحريات من مضامينها وتحويلها إلى مجرد شعارات وممارسات منفردة؟
(5) على هامش أزمة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر المؤهلة لنهائيات كأس العالم، أنبرى البعض لاستعراض وطنيته وولائه والغمز في المعارضة في وطنيتها مستشهدا بالحماس الرسمي والجماهيري المصري والجزائري لتأييد فريق كل منهما مع أنه لم يثبت حتى الآن أن فريقا يمنيا لاقى صدودا من المعارضة أو تجريحا لأنه فاز أو حقق مركزا متقدما في أي بطولة! والغريب أن يقال هذا التجريح والغمز ونحن نقرأ عن المشاكل التي عانى منها مدربون في أكثر من بلد من الصحافة والمنتقدين من الداخل.. فهذان (مارادونا) و(حسن شحاتة) مدربا منتخبي بلديهما عانى كل منهما الأمرين من صحافة بلاده.. ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ أن مؤتمريا أرجنتينيا أو مصريا عاير المعارضة ودعاها إلى الاقتداء بوطنية المؤتمر الشعبي العام في.... اليمن!
(6) تجارب التاريخ المعاصر القريب (جدا) تعلمنا دروساً في أن الولاء الوطني ليس مقالا ولا أغنية ولا خطبة يلوكها المسؤولون.. فكم من بلد انهار نظامه وداس شعبه على صور زعمائه وحطموا تماثيلهم رغم أنف إجبار الشعب على التسبيح بحمد القادة ليلا ونهارا!
ولعل دراويش الولاء الوطني يتذكرون كيف كان ابتداء سقوط الأنظمة الشيوعية في نهاية الثمانينات.. فقد كانت الشرارة الأولى هي اقتحام الحدود والأسوار وتحطيمها وترك الوطن والهروب إلى الغرب الرأسمالي.. رغم أن هذه الأنظمة بالذات هي أكثر الدول الحريصة على فرض الولاء الوطني.. ولكن بالمعنى الفاسد.. أي الولاء للفرد والحزب الحاكم!
أحزاب حاكمة عديدة.. وأنظمة متسلطة كثيرة.. وحكام لا عد لهم ولا حصر كانوا يظنون أن شعوبهم تموت في حبهم.. وصدقوا أن حشد الملايين بالقوة لاستقبالهم والاستماع إلى خطبهم هي من علامات الحب الجارف والولاء الصادق.. ثم جاءت النهاية وضاع كل شيء.. وربما كل هؤلاء كانوا بحاجة ليستفيقوا من غفلتهم إلى خوض تجربة شخصية سبق أن قام بها زعيم دولة أراد أن يتأكد –كما تقول النكتة- من صدق حب وولاء الجماهير له.. فانسل إلى داخل دار سينما تعرض أفلاما تسجيلية عن الزعيم ومنجزاته.. وأثناء العرض كان المتفرجون يصفقون ويهتفون دون توقف والزعيم سعيد بذلك الحماس والولاء.. حتى فاجأه جاره بلكمة قوية في جنبه وهو يقول: صفق يا بني آدم.. حتودي نفسك وتودينا في داهية!