نحن شعب طيب ومسكين مشكلتنا أن طيبتنا تدفعنا لتصديق كل من يحاول الابتسام في وجوهنا ويذرف لأجلنا دموع التماسيح. ناضل المواطن الجنوبي لأجل الوحدة سنين طويلة وكانت الوحدة ثقافة تجري في دمائه يتشربها من الصغر، في زمن لم يكن يشعر المواطن الشمالي العادي حينها بأهميتها، عدا نخب المثقفين والسياسيين الذين كرسوا لها نهجاً في المناهج لتوعية الجيل.
قامت الوحدة في تسعينات القرن باتفاق رسمي جاء انسجاما مع رغبة الشعبين، ولأن قيامها لم يفصل حسب إرادات الشعبين (الجنوبي والشمالي) وإنما حسب رغبة ومقاسات وإرادات القادة السياسيين (لعلي صالح وعلى سالم) التي لا تستوعب الإرادات الشعبية كما هو حاصل في الوحدة الألمانية التي لم يندمج شطراها الشرقي والغربي إلا بعد قيام الوحدة الاقتصادية (توحيد العملة) وقيام الوحدة العسكرية (دمج الجيشين) ومن ثم جرت الوحدة السياسية بين القيادتين السياسيتين، لمجرد توحيد الشعبين وإلغاء الفواصل الحدودية التي أهمها جدار برلين الشهير وإقامة الوحدة الاجتماعية، لتأتي المحطة الأخيرة من إنهاء الانقسام السياسي بين مركزين سياسيين لإنهاء تجاذب القرار وهي الانتخابات بهدف اختيار قيادة جديدة.
في اليمن لأن اتفاق الوحدة كان في الأصل ناقصاً بسبب أن الإرادة السياسية للقيادتين الخاضعة للرغبات والاحتفاظ بمراكز القوى القديمة لنفسها كالجيش والأمن وبعض المؤسسات، لذا لم تكن الوحدة حقيقية بالمعنى الكامل، فكان لليمن جيشان منفصلان وعملتان منفصلتان وسياستان متغايرتان وشعبان متنافران يسيران بحسب الأهواء السياسية لقيادات المصالح، لهذا كانت مخرجات الاتفاق سلبية بكل المقاييس ولم تستقر كالوحدة الألمانية التي بنيت بناءاً سليماً.
يا الله كم فعلا نحن مساكين وضحايا خلافات الرئيس السابق على صالح ونائبه السابق البيض، خلافات على الكرسي لا أكثر ولا أقل، عندما لم يراعٍ كل منهما مصلحة الآخر في الحفاظ على البقاء حاكماً ومؤثراً حرّك أوراقه السياسية ورمى أوراقه العسكرية واستدعى العاطفة الشعبية، لهذا سرعان ما جرى إعلان انفصال السياستين وتصادم الجيشان وتم تعبئة الشعبين ضد الآخر.
ولما انتصر صالح في معركة خسرها الوطن كله وشعر بنشوة المنتصر، بدا كمن يملي شروطه على المنهزم ولأن منافسه البيض قد رمي هنالك خلف البحار فقد أسقط صالح حقده على شعب الجنوب الطيب، وبدا كمن ينفذ أجندة ممنهجة لتهييج أبناء الجنوب ضد الوحدة وليس ضده، فصادر الأراضي وألغى حق المواطنة المتساوية دستوريا، وبنزوات شخصية حرم البعض من وظائفهم وقاعد البعض ومنع حق الترقية لمن بقى في أجهزة الدولة ومن حظي بالترفيع عزل إداريا عن اتخاذ القرار... الخ . ما أثار نقمة شعب الجنوب على كل ما هو شمالي، وليس عليه كحاكم فاسد أفسد حياة الشعبين شالا وجنوبا دونما تفريق إلا أن ما لاقاه الجنوب كان مضاعفاً وأشد وطأة.
أجزم موقنا بأنه لو كان من أعلن الانفصال في 1994 علي صالح، وسقط صالح كما سقط البيض لكنا اليوم شعب الشمال نطالب بحقوق شعبنا المهدورة وإعادة الأراضي المنهوبة وحقوق المواطنة والانفصال عن شعب الجنوب المحتل، لأن صالح سيستغل – من المنفى – عواطفنا الجياشة بالنقمة على الجنوب المحتل، وفق أجندة سياسية تعمل أهدافها على إعادته للسلطة حاكماً كما يفعل اليوم البيض تماماً لأن كلاً منهما لم يكن يهمه الشعب بقدر ما يهمه البقاء على كرسي السلطة، وكل منهما اليوم يمتلك فنون ومهارات إثارة العواطف ويمتلك المال والوسائل المساعدة لذلك.
استغرب كثيراً من إخواننا وأحبائنا في الجنوب كيف يحملون المسؤولية شعباً بريئاً من دمائهم، ولا يحملون مجموعة الفاسدين في السلطة مسئولية الفساد المستشري الذي دفع إلى قيام ثورة كادت تنهي الفساد وهضمتها اتفاقيات برعاية دولية، إذ ليس الفاسدين كل شعب الشمال، وأستغرب أكثر كيف أن شعب الشمال اليوم صار أكثر خوفاً على الوحدة من شعب الجنوب أول راع ومؤمن ومطالب بالوحدة، لقد وصل تأثر شعب الجنوب بدعاية من يريدون العودة للكرسي حد كراهية الوحدة دونما داع، وإنكار هويتهم اليمنية دونما سبب وجيه، وكراهية كل ما هو شمالي دون منطق.
نحن جميعا ضحايا صراعات سياسية لا أكثر في الشمال أو في الجنوب سابقا وحاليا وقد يكون لاحقا، وقد صرنا صورة معكوسة ونتاجاً لصراعات الأجيال القديمة ونصفق خلفها كببغاوات وكأننا فاقدي وعي لا ندرك الحقائق.
ومع دعمنا ومساندتنا لحق الشعب الجنوبي في استرداد كافة حقوقه المسلوبة، إلا أن هذا الحق بات لأهميته قضية للمتاجرة السياسية والمراهنات، ومركزاً لصراع وتجاذبات كافة الأطراف السياسية، "فكل يدعي وصلاً بليلي "حتى المؤتمر الشعبي وقادته ممن أجرموا بحق الجنوب يعلنون هذه الأيام وقوفهم إلى جانب القضية الجنوبية، وضد من؟ هل ضد أنفسهم كفاسدين أم سيوظفونها لمصالح حزبية؟، ومثلهم الحوثيون الذين خرجوا باتفاق سياسي للتهدئة مع المشترك يعلنون أن اللقاء كان من أجل سواد عيون القضية الجنوبية، ومثلهم المشترك.
المصيبة العظمى أن خمسة أو ستة أجيال متعاقبة من الشعب الجنوبي لا تمثل نفسها في المطالب ويخضعون أنفسهم لرغبات وتجاذبات قيادات الجيل القديم الذين أذاقوهم ويلات الصراع والانقسام البيني، منذ تصدرهم المشهد في ستينيات القرن العشرين، واليوم عادوا يذرفون دموع التماسيح على شعب الجنوب رغم معاناتهم حالات التشظي التي تنبئ مستقبلاً بانقسامات، إن فعلا هم استقلوا بالجنوب – لا قدر الله – ما يعني أن صراعات ما بانتظار الجنوب في المستقبل بين فرقاء المصالح السياسية، قد تنعكس على الشعب بما يعيد للذهنية أحداث 13يناير، أشهر حروب الأخوة الأعداء، فإذا كانوا اليوم لم يتفقوا بعد على مصلحة الشعب الجنوبي، وكل يوم نشهد حالات تشظي جديدة فكيف سيكون المستقبل!
إضاءة حن الشمال إلى الجنوب وكم هزت فؤاديهما الأشواق والشجن وما الشمال ؟ وما هذا الجنوب؟ هما قلبان ضمتهما الأفراح والحزن ووحد الله والتاريخ بينهما والحقد والجرح والأحداث والفتن البردوني