حين قامت الثورة الفرنسية بفضل غضب البسطاء الجائعين لم تكن ثورتهم رفاهية أو مجرد مناكفة سياسية حتى وإن تولى قيادتها بعض القادة والمسؤولين السابقين، لكن ما يستدعي النظر هو أن الثورة الفرنسية لم تكتف بوضع الرؤوس فوق خشب المقصلة لكي يرونها تتدحرج بين أقدام الحفاة العراة، بل أعقبتها ثورات أخرى لا تقل أهمية عن الثورة الكبرى ولكن بلا رائحة الدماء العطنة، ثورات كان خليطا من روائح الياسمين وعبق أوراق الكتب في المطابع وروعة ألوان الأزياء الباريسية، ثورات شملت الفكر واللبس والبناء والكلام وتطورت مع مرور الوقت لتتكون معها الحالة الفرنسية بكل ألقها وعنفوانها وجمالها. وأول الثورات التي ينبغي القيام بها في بلادنا هي ثورة تفعيل سلطة الدولة التي قام المخلوع بإماتتها من أجل التهيئة للتوريث حتى لو كانت النتيجة هي تدمير البلاد، فهوبز يقول (السلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية)، فالهمجية هنا هي مخلفات النظام السابق التي تستطيع إنتاج نظام متجدد يحمل كل أمراضه وعاهاته، فبغير تفعيل سلطة الدولة لا يمكن القيام ببقية الثورات. ففي بلادنا نجحت ثورتنا الكبرى بكل اقتدار دون أن يهدر الثوار أية دماء عطنة تزكم الأنوف بها، فالمخلوع كان هو رأس النظام وذيله وكل ما فيه، وكل من يشكك بنجاح الثورة عليه أولا أن يعيد المخلوع رئيسا للنظام ثم يتحدث عن فشلها، لأن الحديث عن فشل الثورة هو مثل الجدل في الوقت الضائع في مباراة لكرة القدم لا فائدة منه ولا يغير النتيجة ولا يحمي من الحصول على الكارت الأحمر.
وعلى الثوار أن يعوا أن المسألة لم تعد نجاح الثورة فقط، ولكن تعزيزها بثورات أخرى في كل المجالات، ثورات فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية وفردية وفي كل اتجاه وعلى كل صعيد، ثورات نظيفة مصغرة تشبه الثورة الأم في كل شيء حتى في نتيجتها، فعلى الثوار أن يخرجوا من حالة الثورة وأن يرتدوا لباس السياسة لمواجهة انهيارات النظام السابق والفئران التي خرجت من بين الشقوق والتصدعات، فلا يمكن مواجهاتها بلباس الثورة لأنها غير قادرة على المواجهة ولا تتحرك إلا في الظلام الذي استطاع النظام السابق أن يزرعه في كل أرجاء البلاد. فالسياسة وحدها هي القادرة على مواجهتهم وإخفائهم للأبد.
ويجب أن يعي الثوار أن المسألة التي بدأوها وأداروها باقتدار ليست مسالة سهلة فما زالت عجلة التغيير بحاجة للكثير من الليونة حتى تسير بسلاسة، وعليهم أن يتذكروا أن «إعلان حقوق الإنسان» الشهير في فرنسا جاء بعد الثورة مباشرة، ولأن الملك لم يعِ أن التغيير قد حان فقد سالت الدماء فكان هو ضحيتها الأولى بعد مايقرب من ثلاث سنوات، ورغم حالة العنف والفوضى التي رافقت إعدام الملك إلا أن هذا لم يمنع أن تكون الثورة الفرنسية هي أم الثورات وملهمة الثوار، واختفت في زحمة التاريخ نظرات الملك الخائفة أسفل المقصلة.