لا أدعو هنا إلى تخليص السياسة من مشاعر المخاوف فجأة، ليس إلا التخفف من تكريسها كمنتج وحيد للفعل السياسي اليمني الراهن. كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح كثيرا ما يردد الاستعارة الشهيرة لتوصيف الحكم بالرقص على رؤوس الثعابين، كتفسير لتصوره الشخصي للحكم وللسياسة، على أنها لعبة بهلوانية مع المخاوف، في الأزمة الثورية الأخيرة بدا هذا واضحا في حديثه أكثر من مرة عن "رقبته" التي كان يقول إنه لن يسلمها إلى معارضيه (الثعابين)، قبل أن يحصل لها على حصانة، وبعدها.
غير أن الحديث عن تسليم الرقبة في السياسة، لا يبدو أنه أمر خاص بصالح وحده، بقدر ما يبدو أنه سلوك سياسي أصيل ومتوارث في السياسية اليمنية قديما وحديثا، وعند جميع الأطراف، المهم الآن هو أن البلد لا تزال عالقة عند "تسليم الرقبة". يقولون إن رقبة علي محسن التي لا يريد أن يسلمها هي الآن من تعيق استكمال هيكلة الجيش، آخرون يقولون إن ضباط سنحان هم من يضغطون على محسن كي لا تكون رقاب سنحان الخاسر الأكبر من هيكلة الجيش، وأن لا فرق هنا بين من خرج مع محسن ضد صالح أو من بقي معه.
لا أستبعد هذا، وأتوقع قائمة طويلة تتجاوز سنحان إلى نطاق أوسع لمستفيدين من النظام السابق، من مشائخ وضباط، وربما تجار وموظفين قد يمانعون إن اقترب التغيير من مصالحهم، لا فرق هنا بين مؤيد للثورة أو مناوئ لها، ربما عند المؤيدين أكثر كونهم قد يرون أنفسهم أصحاب استحقاق ثوري.
لكن هل قدر السياسة في اليمن هو تأمين الرقاب؟!. التعريف الآخر للمصالح أيضا، وهل الحصانة الممنوحة لصالح ومن عمل معه خلال فترة حكمه سواء من بقي معه أو من ثار عليه غير كافية في الخصوص؟!. وهل قدرنا كيمنيين لأجل تأمين هذه الرقاب، أن نظل نسلمها رقابنا نحن؟. ... في الحقيقة البلد كلها مليئة بالرقاب الخائفة، فصاحب صنعاء لا يزال يخاف على رقبته من قبائلها المحيطة، والتهامي يخاف على رقبته من ساكن المرتفعات الجبلية عموما لا فرق عنده بين صاحب عمران وبين صاحب حجة فكلهم "جبالية" من وجهة نظره، و ذلك الجنوبي يخشى على رقبته من الشمالي عموما لا فرق عنده بين صاحب حاشد وبكيل أو صاحب تعز الذي يشاطره التوجس من ذات الهضبه كما يشاطر الهضبة عداء الجنوبي له، وفي ذلك الجنوب حيث لا يزال الضالعي يتوجس على رقبته من جاره الأبيني والعكس، فيما الحضرمي يتوجس من الأثنين، بذات القدر الذي يتوجس فيه من الشمالي..
الجميع يهرب من الجميع، في تهامة رفعوا مؤخرا علما من ثلاثة ألوان (الأزرق، والأبيض، والأخضر) تتوسطه سنبلتان، وأعلنوا دولة تهامة. ولأهل تهامة مخاوفهم وإحساسهم بالظلم كما هو الأمر في الجنوب أو في تعز، أو حضرموت، غير أن الهروب من المخاوف في اتجاهها ليس حلا ناجعا بقدر ما هو مشكلة. ... لكن لم أخلط بين نوعين من المخاوف قد يبدو الجمع بينهما إساءة لأحدهما، مخاوف المركز الذي كان يحكم (الغالب)، والأطراف المحكومة (المغلوبة)، من وجهة نظري ليس هناك من فروقات جوهرية للمخاوف بين الغالب والمغلوب في تأثيراتها على السياسة. مع أن مخاوف الثاني أكثر تفهما ووضوحا من مخاوف الأول. فوجود المخاوف كمتحكم ومهيمن على السياسة لإعادة أنتاجها وتكريسها هو أمر غير سوي ولا يهم من هو مصدرها الأول..
ربما تكون مخاوف سنحان أو حاشد وافدا جديدا إلى ساحة المخاوف الواسعة في اليمن، مع ما يمثله هذا من ترميز لمخاوف المركز المتحكم الذي قد يبدو أنه بدا يشعر بفقد السيطرة، ووجود هذا النوع من المخاوف قد يمثل عائقا أمام التحول السياسي والتغيير، إلا أن الاستجابة والرضوخ لهذه المخاوف التي قد تتضمن الإبقاء على مصالح فاسدة سيعد تكريسا للوضع الخطأ، فيما تجاهلها تماما قد لا يخلو من مخاطرة، ذات الأمر مع المخاوف القديمة في الأطراف فالاستجابة لها على قاعدة تموضعها الضيق لن يكون حلا، غير أن تجاهلها تماما لا يخلو من مخاطر أيضا.
لست هنا في مكان مناسب لتقييم حجم تلك المخاطر في الاستجابة لهذه المخاوف أو تجاهلها، كما لا أقدم أي مقترحات للتعاطي مع هذه المخاوف سواء الجديدة منها أو القديمة. ربما ما أريد قوله فقط، هو أن هذا النوع من السياسة الذي يبني وجوده على استثمار الخوف وتكريسه، أياً كان من يستخدمه لا ينتج إلا المزيد من الخوف والصراعات الأخرى غير المنتهية. لا فرق بين استخدام الخوف لإحقاق حق، أو احتفاظ بباطل.