خلال الثورة وبعدها هلل الكثير من الثوار لما سُمي بثورة المؤسسات، على اعتبار أن هذه الأعمال ستؤدي إلى إحداث الثورة الشاملة المنشودة. وعلى الرغم من أن معظم من أيد “ثورة المؤسسات” كان مدفوعاً بحسن النيئة، إلا أن التحليل السياسي يشير إلى أن هذه الثورة ليست إلا وسيلة لإضعاف قوة سياسية ما وتقوية أخرى، كما أنها تحمل مخاطر إضعاف مؤسسات الدولة وربما تفكيكها. وبما أن الأمر على ذلك النحو، فإن حس المسئولية يستوجب الوقوف في وجه هذه الثورة، خاصة حين تطال مؤسسات حساسة مثل المؤسسات العسكرية والأمنية، فالقبول بفكرة التغيير عن طريق التمرد داخل هذه المؤسسات يفتح الباب أمام تفكيك هذه المؤسسات والعبث بها، ويؤدي إلى صراعات عنيفة وانقسامات داخل المعسكرات، بين المؤيدين والمعارضين. كما أنه يلغي قاعدة الضبط والربط، التي هي أساس وعمود أي قوة عسكرية في أي مكان وزمان. يبرر من يقوم بالانتفاضات، عملهم هذا، بالفساد والمحسوبية المنتشرة في الجيش وجميع مؤسسات الدولة، وهذا التبرير يحمل الكثير من الوجاهة، فنظام صالح كان مؤسسا على الفساد والمحسوبية، ومن ثم فإن معظم مؤسسات الدولة، وتحديدا مؤسسات الجيش والأمن، مؤسسات كانت فاسدة. ولكن هل إصلاح هذه المؤسسات وتغيير القادة فيها، يتم عن طريق انتفاضة المؤسسات؟ الجواب بالنفي طبعاً، فليس كل تغيير بهذه الطريقة لقائد فاسد يعني بالضرورة تغييره بقائد كفؤ ونزيه، فمن خلال كثير من نماذج للتغيير التي أعقبت ثورة المؤسسات، وجدنا أن التغيير قد تم لمصلحة طرف سياسي ما، كان يقف خلف الانتفاضات أو استثمرها لصالحه، ولتسمية الأمور بمسمياتها، نشير إلى حقيقة أن مؤسسات الدولة في عهد الرئيس السابق صالح، وتحديداً المؤسسات الحساسة، كانت مقسومة بين فريقين هما: فريق صالح وفريق اللواء علي محسن، وبما أن الفريقين يتصارعان النفوذ والسيطرة على الدولة منذ الثورة وحتى الآن، فإن انتفاضة المؤسسات قد لا تكون سوى استمرار للصراع بينهما. أن من يشجع الانتفاضات على خصومه اليوم؛ سيجد نفسه في الغد وقد أصبح ضحية لها، خاصة وأن الفساد وسوء الإدارة، التي يُتذرع بها للقيام بالانتفاضات، تشمل جميع الأطراف المتصارعة، وهو ما يعني أن الانتفاضة التي تتم بمبرر فساد القادة المحسوبين على صالح، ستتم وبنفس المبرر على القادة المحسوبين على الطرف الآخر وهكذا، كما أن القبول بفكرة الانتفاضات لتغيير القادة، سيفتح الباب أمام انتفاضات مضادة، حيث سنجد أن القادة الجدد سيواجهون بانتفاضات موجهة من القيادات السابقة والأطراف المحسوبة عليها، أو من قبل طامحين للقيادة وأطراف جديدة ترغب في الاستيلاء على هذه المؤسسات. لاحظنا خلال “ثورة المؤسسات” لجوء بعض المسؤولين إلى الاستعانة بقبائلهم، ومناصريهم، لحمايتهم ممن ثاروا عليهم، واستمرار هذه الثورة في الجيش سيؤدي إلى قيام البعض بخطوات مماثلة، وهو الأمر الذي يجعل المعسكرات ساحة للصراع العنيف وما يحمله ذلك من نهب للأسلحة الثقيلة، وتفكك هذه المؤسسة الحساسة. إن رفضنا لانتفاضة المعسكرات، ليس حرصاً على بقاء القادة الفاسدين، بقدر ما هو إحساس بخطورة هذا الأمر على الدولة، فوجود قادة فاسدين وغير أكفاء في مؤسسة الجيش، أفضل من إضعاف هذه المؤسسة وتفكيكها. فالجيش المتماسك بحده الأدنى يضمن بقاء الدولة ودرجة ما من الاستقرار والأمن. على كل المؤيدين للثورة أن يؤيدوا قرارات التغيير في المؤسسات، والوقوف أمام أي عملية تمرد عليها، حتى لو كانت هذه القرارات يعتريها الشك، فالتغيير الآمن للقيادات الفاسدة في جميع مؤسسات الدولة ينبغي أن يتم عبر قرارات من السلطة السياسية الشرعية، ولا ضير في أن يتم هذا الأمر ببطء، فمساوئ بقاء قائد فاسد لفترة محدودة، أقل سوءاً من إزاحته عبر تعريض المؤسسة للتفكك والفوضى، واستبداله بفاسد آخر محسوب على الثورة، أو العهد الجديد. وتأييد التغيير بهذه الطريقة يضمن للدولة الاستقرار ويعزز من قوة المؤسسات السياسية الشرعية، ويُضعف من مراكز القوى المستندة إلى عصبياتها القبلية أو الدعم الخارجي أو استحواذها على جزء من القوات المسلحة. ولا يعني تأييد هذه القرارات عدم التدقيق فيها أو التشكيك في أهدافها، فهذا الأمر مطلوب وضروري، وهو قبل كل ذلك حق لكل مواطن، ولكن يجب أن يتم هذا الفعل بعد أن يتم تنفيذها، وليس قبله أو أثناءه، فمن حق الجميع بما في ذلك الأشخاص اللذين شملهم التغيير، أن يحتجوا ويتظلموا من التغييرات، ولكن ذلك يجب أن يتم بعد تنفيذ هذه القرارات، وفق قاعدة نفذ ثم تظلم. على القيادة، ألا تستجيب لهذه الانتفاضات، حتى لو كانت ستؤدي إلى إزاحة فاسد ترغب في عزله، لأنها بذلك تشجع الفوضى في هذه المؤسسة الحساسة، بل أن المسئولية القانونية تستدعي منها القيام بمعاقبة المنتفضين، حتى لو كانت لهم مطالب عادلة، ولحل شكاوى الفساد وسوء الإدارة، ينبغي تشكيل هيئات من القضاة والمتخصصين للنظر فيها واقتراح الحلول، بدلا من ترك الأمور للفوضى. إن ما يؤكد النتائج التي توصلنا لها، ما يدور حالياً في أحد المعسكرات، حيث تفيد الأخبار، بوجود صراع قد يتطور إلى انقسام وصراع عنيف داخل المعسكر وخارجه، على خلفية انتفاضة بعض الجنود على القائد الجديد، فما رشح عن هذه الانتفاضة من أخبار؛ يشير إلى صراع لمراكز النفوذ للسيطرة على هذا المعسكر، وهو نموذج قد يتكرر كثيراً لو تركنا لهذه الظاهرة بأن تستفحل. هناك خيط رفيع بين الفوضى والثورة، ولسوء الحظ فإن معظم الثورات لم تؤد إلا إلى الفوضى، في الوقت الذي كان الثوار يعتقدون بأنهم كانوا يقومون بثورة.