مرت بسلام، ذكرى إعلان الحرب على الحزب الاشتراكي اليمني شماله قبل جنوبه (إعلان الحرب وليس آثارها) في 27 ابريل الماضي.. مرت بسلام على إخواننا في الحراك الجنوبي، وهذا هو الاجراء الذي كان مفترضاً منذ بداية حركة احتجاجاتهم عام 2007. مرت الذكرى برداً وسلاماً عليهم، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لآخرين شماليين يقيمون في "دولتهم"، لا بواكي لهم، ولا "دموع تماسيح". عماد العواضي (35 عاماً) مواطن شمالي (محتل ابن محتل) قتل، وهو "يطلب الله" في محله التجاري في "حوطة لحج"، برصاص مسلحين يستقلون دراجة نارية.. قتل العواضي في ذكرى إعلان الحرب على الحزب الاشتراكي اليمني.
وفي سيئون أحرق أكبر مركز تجاري يتبع المستثمر سرحان جميل سرحان، هو الآخر محتل شمالي، إذ ينتمي لمديرية وصاب. لا بأس.. فليُقتلوا فرادى وجميعاً قرابين للوحدة.. تملقاً للجنوب المحتل من ضحايا الشمال.. عهداً لن يتكلم أحد خصوصاً رجال الصحافة المستقطبين، وفلول الانسانية من النخب المجتمعة في مؤتمر موفمبيك للوقفات الاحتجاجية (المنافقة غالباً)، أو المنظمات الحقوقية الانتهازية العاملة بالمزاد . التضامن مع شمالي قتل او انتهك حقه في الجنوب أمرٌ حساس.. لا؛ بل جريمة مضافة تصب في خانة مساندة المحتل البغيض واستمراراً للعدوان على الجنوب. يتحمل الوزير الأمني الشمالي كامل المسؤولية عن حياة الجميع بمن فيهم الشماليين المحتلين، والجنوبيين الثائرين. هذا الأمر مفروغ منه.. لكنه أيضاً مبالغ فيه إذ أن أي حملة أمنية أو انتشار في مدن الجنوب سيؤخذ باعتباره إفساداً "للعصيد التي تروّب في موفمبيك"، واستمراراً للتنكيل بالجنوب المحتل، وتسخيناً لأجواء حرب صيف 1994، وتصادماً مع النقاط العشرين.
كذلك اعتقال أي مشتبه به جنوبي أو محاكمته، سيحتسب بمثابة إعلان حرب جديدة على الجنوب، وتنكيلاً بأبنائها وسلوك عدواني بغيض.. ورغم ذلك يتحمل الوزير وأجهزته الأمنية الرخوة مسؤوليتها في تلك الجرائم. دعونا نناقش أمراً آخر مسكوت عنه، فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية والانسانية المشتركة. حملات التحريض والكراهية باسم الجنوب تتحمل وزرها ومسؤوليتها أيضاً في تلك الجرائم، إذ اصبحت من العدائية والخطورة بقدر يتيح معه حتى لمواطن شمالي (افتراضاً ربما) أن يغادر إلى الجنوب ليقتل غريمه "الشمالي"، ضامناً أن لا ملف سيفتح له في النيابة، ولا أجهزة ستتحرى، في المنطقة المنكوبة بحرية ارتكاب الجرائم، ضد الجنوبيين والشماليين ببركات بعض جوانب "النضال السلمي الانساني"، بيد أن ضحايا الجنوبيين يحظون برأي عام متعاطف في الشمال والجنوب، ومتضامنين على نطاق واسع. كذلك تتحمل النخب الشمالية "الانتهازية"، المفرطة في استعراض مواقف التضامن مع الجنوب - في وقت اصبح فيه الرئيس والحكومة متضامنون- مسؤوليتها، إذ لا تنكر أعمالاً اجرامية كتلك، بداعي عدم استفزاز الجنوبيين، وكمقتضى التملق.. وذلك ما جعل المتطرفين والقتلة ودعاة العنف (أياً كانوا)، يستمرؤون أعمالاً اجرامية كتلك، ويرون في المواقف المتضامنة المنتصرة للمظلومية الجنوبية (بالمطلق)، والأخرى الصامتة الخرساء عن انتهاكات تقع هناك مشجعاً ودافعاً لهم في الاستمرار على ذات النهج. كخبر؛ هل تناول الأمر إعلام الجنوب أو الشمال بكافة ألوانه "المتلاعنة فيما بينها"، كما تفعل عند إصابة متظاهر ينتمي للحراك بمسيلات دموع.. حتى كخبر يفيد بوقوع حادث وبأي إخراج وبأي تفاصيل مضافة ومتناقضة، وبأي تعديلات مكيفة كما يرغبون.. قلة قليلة هي التي فعلت، فحدث كهذا لم يعد جديراً بتهييج الرأي العام "التعيس". يعيش الشماليون، في أكثر مدن الجنوب، حيث النخب الثورية الجنوبية، في ظرف عدائي للغاية، وما يدفعهم للبقاء هناك أمرين اثنين.
أولهما: لقمة العيش التي يرون أن الرّب قسمها لهم في ذلك المكان، واكتسبوها دون أن يكون لهم أي علاقة بسلطة الاحتلال والنهب، بقدر ما ارتبط الأمر بكدح وعرق الجبين، وبحر أموالهم، تماماً كإخوانهم الجنوبيين العاملين (أو اللاجئين) في أي من المدن اليمنية.. (اليمنية اقصد الشمالية طبعاً). الأمر الآخر؛ وهو الأهم: ان هؤلاء الشماليين الأبرياء يشعرون بإنسانية ومودة كثير من إخوانهم الجنوبيين، الذين خبروهم عن قرب، وخبروا نزاهتهم، ولم يعهدوهم ناهبي أراضي ولا سالبي أقوات الناس.. عايشوهم لعقود، بمنطق انساني عظيم، متخفف من أمراض العنصرية، إذ لا يمايز بين شمالي وجنوبي، خصوصاً إذا تعلق الأمر بضحايا الطرفين.
ذلك شجعهم على البقاء والاستمرار، حتى أنهم - بفطرتهم البريئة- يرون فيما يحدث من انتهاكات لغيرهم، أمراً ليس وارداً بحقهم.
انتهاكات وجرائم كتلك، لا تبدو مدانةً ولا مستنكرةً، ولا مرفوضةً، من قبل كثيرين هناك حيث الحنين إلى مدنية الجنوب وإنسانيته، طالما الضحية "محتل"، الذي يشيعه من ذلك المشهد كله، أسف وانسانية من يعرفونه فقط، من البسطاء المتخففين من انتفاخ وعظمة ثورة الجنوب وتميز الانسان الجنوبي المتمدن وتفوقه على كل ما سواه، خصوصاً نظرائه من الكائنات "الهمجية" ساكنة الجمهورية العربية اليمنية.
فقدان القيم الانسانية وطغيان الخطاب والسلوك العنصري لأي جماعة لا يؤهل لبناء مجتمع صحي.. ولا يبرر بردة الفعل.
نسخة مع التحية لفلول الانسانية، وخصوصاً أعضاء مؤتمر الوقفات الاحتجاجية المجتمعين في موفمبيك.