أواخر ثمانينات القرن الماضي، وبعد اندحار القوة السوفيتية في أفغانستان، عاد الكثير من الشباب العربي (ممن عرفوا بالمجاهدين الأفغان العرب) من معركتهم تلك إلى بلدانهم، حاملين لواء النصر على أعتى ثاني قوة عالمية – في ذلك الحين. لمدة طويلة، اندمج معظم أولئك المجاهدين في مجتمعاتهم العربية، والإسلامية، بينما ظلت فكرة العنف والقتال مسيطرة على البعض الآخر. ليجعل هؤلاء من المحافظة على هالة النصر، ونشر الفكر الجهادي، بين الشباب المسلم والمتحمس، هي فريضته الأساسية.
وكما هي الحال في بعض الأجزاء العربية، والإسلامية، ظل مجموعة من هؤلاء المجاهدين، في اليمن، يحافظون على عزلتهم الإيديولوجية الجهادية، متحركين فقط في أوساط بعض الشباب المتحمس، لتوسيع إطار تلك الدائرة المحدودة. ينعشون فيهم، ويغذون حماسهم الديني تحت فكرة أن النصر لا يمكن أن يأتي إلا عبر فريضة الجهاد ضد العدو الغربي. ثم توسعت أهدافهم لتطال العدو القريب (الحكام العرب).
وخلال الفترة التي تلت معركة أفغانستان على مدى تسعينيات القرن الماضي، وفي محيط هادئ، حقق هؤلاء نجاحاً ما عبر آلية الإنعاش الأولي، ليتم بعد ذلك إعادة صياغة فكرة استمرار الجهاد، بشكل منظم في أفغانستان من خلال إمارة طالبان التي أتاحت المجال لنشأة ما سمي لاحقاً بتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.
لبى بعض أفراد الرعيل الأول – وقليل من الأنصار الجدد- نداء الهجرة إلى أفغانستان، والانضواء تحت لواء القاعدة، المحتضنة من حركة "طالبان" التي ذاع صيتها، وباتت مسيطرة على الدولة الأفغانية. وبالترافق مع تلك العملية استمرت محاولة بناء التنظيم في بعض البلدان العربية والإسلامية، تعززت بعد ذلك بعودة بعض القيادات المحلية إلى بلدانهم، مع توزيع بسيط لبعضهم إلى بلدان أخرى عربية وأجنبية من غير بلدانهم الرئيسية بسبب عدم قدرتهم على العودة إلى بلدانهم، وأحياناً لأسباب أخرى..
نجاحات عربية.. اليمن دولة حاضنة.. استطاعت دولة مصر، أن تتجاوز مشاكلها الداخلية مع أعضاء الفكر الجهادي باعتقالهم، وتشديد القبضة الأمنية والاستخباراتية عليهم، فيما فضل بعضهم البقاء في المهجر، أو في بعض الدول العربية والإسلامية التي وجدوا فيها مبتغاهم، ومنها اليمن التي عرفت آنذاك بوجود بعض الأجانب من دول مصر، الجزائر، ليبيا، السعودية..وغيرها.
المملكة العربية السعودية هي الأخرى، نجحت - خلال الأعوام الخمسة الأخيرة – في تشديد إجراءاتها لتعتقل من اعتقلت، وتحتوي من استطاعت احتواءهم بطرق مختلفة، بينما فر من بقوا على حالتهم (ممن سيطر عليهم الفكر الجهادي) إلى اليمن أيضاً.. لكن، ومع غزو العراق في العام 2003، توجه بعض هؤلاء "المقاتلين" إلى هناك للجهاد، بضمنهم يمنيون.
القاعدة في اليمن.. في بداية الأمر اعتقد أن العائدين من أفغانستان إلى اليمن، اندمجوا في المجتمع دون مشاكل. غير أن العام 2000 كشف ما كان خافيا: وذلك حين استهدفت المدمرة الأمريكية "كول" قبالة شواطئ عدن، وقتل فيها 17 بحاراً أمريكياً لتصبح اليمن دولة معروفة على مستوى العالم(الكثير من السياسيين والمحللين الغربيين لم يعرفوا اليمن إلا بعد تفجير كول). ثم جاءت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، لترفع من حماسة التيار الجهادي على مستوى العالم. دخلت اليمن مع ما سمي بالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، مثلها مثل العديد من دول العالم الأجنبية والعربية والإسلامية. أعقب ذلك عملية تفجير السفينة الفرنسية ليمبورج (شهر أكتوبر من العام 2002)، قبالة ساحل حضرموت.
بعدها توالت الأحداث، ليتم التركيز على اليمن كدولة يتمتع فيها الأرهابيون بالحرية لاستهداف المصالح الأجنبية، وخصوصاً بعد تبني تنظيم القاعدة تلك العمليات، واعداً بالمزيد منها. لتأتي بعدها عملية اغتيال أبو علي الحارثي (المتهم بقيادة القاعدة في اليمن، والتخطيط لعمليتي كول وليمبورج)، والذي تم اغتياله في نوفمبر 2002، في صحراء مأرب مع ستة من رفاقه. ويعتقد متابعون أن اليمن دخلت، ومنذ ذلك الحين، مرحلة جديدة من الصراع مع القاعدة، الذي يعتقد أنه ظل يتنامى بعيداً وبحرية عن أجهزة الأمن الداخلية والخارجية.
بعد أحداث 11 سبتمبر المذكورة، اعتقلت اليمن المئات من أعضاء التنظيم وأودعتهم سجون الأمن السياسي. تحاورت مع بعضهم، وأطلقت سراح من تقول أنها نجحت في تغيير أفكارهم، مع توقيع تعهدات بعدم العودة لأعمال العنف، فيما ظل البعض الآخر في المعتقلات، بعد أن عجزت عن تغيير أفكارهم، أو ممن تعتقد بخطورتهم. ويقال أن بعض من أطلقت سراحهم اشترطت عليهم التعاون معها للإبلاغ عن أي ناشطات أو عمن عاد لممارسة العنف، أو أي جديد ممن تم تأطيرهم في التنظيم.
بعض من أطلقوا ذهبوا للحرب في العراق بحسب بعض التقاريرالمحلية والأجنبية. قتل البعض، فيما اعتقل آخرون هناك، أو في دول مجاورة، وتم إرسالهم إلى المعتقلات اليمنية من جديد. بعد أعوام أطلق سراح البعض تحت التزام بعدم العودة للقتال. وأثناء ذلك كان هناك تيار جهادي آخر من الشباب ينمو باستمرار..
أجيال القاعدة..والخلافات.. وعلى ضوء تلك المراحل تكونت ثلاثة أجيال قاعدية، بحسب بعض المحللين. ويقول الباحث اليمني سعيد الجمحي –المتخصص بتنظيم القاعدة– إن كثيراً من الباحثين عندما يحللون تنظيم القاعدة، يتحدثون عن تلك التقسيمات: فالجيل الأول –القدامى- كما يعتقد، تم احتواء الكثير منهم من قبل السلطات. أو بتعبير آخر – يفضله - أنه "حصل نوع من الاستلطاف بينهم وبين السلطة، لتخمد أنفاسه". ويضيف: "وربما كان لبعضهم – كما هو حاصل هنا في اليمن – دور في عملية التواصل بين السلطة وأعضاء التنظيم أو التنظيمات الجهادية الأخرى للتهدئة".
أما الجيل الثاني فيعتقد أنهم الجيل الذي جاء بعد أفغانستان ممن تم تجنيدهم بعد التسعينيات إلى ما قبل أحداث 11 سبتمبر..لكن وكما يبدو – بحسب الجمحي - فإن الجيل الأخطر هو الجيل الأخير (الثالث) جيل ما بعد أحداث 11 سبتمبر، الذي لا يعرف المهادنة ولا أنصاف الحلول مع السلطات التي يساويها بالعدو الغربي، وخصوصاً بعد ما سمي بالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
خاضت قوات الأمن اليمنية مواجهات عدة مع القاعدة. كانت معظمها عبارة عن مطاردات، وفي أحيان كثيرة كانت تقتحم أوكارهم وتعتقلهم، وأحالت الكثير منهم إلى محاكم متخصصة، بمن فيهم مجموعة من المتهمين بتفجير المدمرة الأمريكية والسفينة الفرنسية.
ويعتقد الجمحي أن النواة الأولى من التنظيم تأسست أو تم إعادة صياغتها بشكل منظم بعد العام 2006. بحيث يمكننا أن نأخذ منها أشكال الأجيال الثلاثة. وهي النواة التي تأسست في فبراير 2006 بعد الحادثة المشهورة لفرار 23 شخصاً من سجن الأمن السياسي بصنعاء.
يقول: سنجد أن هؤلاء ال 23 من بينهم من تم مواجهته وقتل برصاص الأمن، مثل فواز الربيعي وآخرين كانوا معه. ومنهم من قام بعمليات أعلن عنها لاحقاً في نفس العام ضد بعض المنشآت النفطية في كل من صافر (مأرب) والضبة (حضرموت)، كما جاء في بيان القاعدة في حينه. ومنهم من سلم نفسه وعاد للسجن. وأشيع حينها أن الدولة عقدت صفقه معهم وأطلق بعضهم على هذا الأساس. وحتى هذا الصنف أيضاً، مع أن بعضهم عاد لتنفيذ بعض العمليات في الداخل، إلا أن هناك من غادر البلاد، كما يقال، بينما أنكفأ القسم الآخر، وأصبح يعيش حياته بشكل طبيعي على أساس الاتفاق مع السلطة.
وبحسب بعض المحللين، فقد حدثت بعض الخلافات الطبيعية بين أجيال التنظيم وقياداته نتيجة تلك التقسيمات وما رافقها من احتواء للبعض، وتسرب معلومات سرية عن تواجد بعض القيادات.. الخ. ولوحظ خلال تلك الفترة من 2006 وحتى أواخر 2008 عن إعلانات مختلفة حول زعيم التنظيم. وهي الفترة التي حدث خلالها اغتيال بعض من أهم قادة التنظيم مثل فواز الربيعي، وحمزة القعيطي، وسالم عمر القعيطي، وآخرون..
زعيم القاعدة بعد إعلان الدمج.. في 24 يناير 2009 أعلن تنظيم القاعدة توحيد القيادتين اليمنية والسعودية في قيادة واحدة مقرها اليمن تحت مسمى "تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، وهو الإعلان الذي لقي صدىً واسعاً في وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية.
تضمن الإعلان اختيار ناصر الوحيشي زعيماً للتنظيم الجديد، والسعودي سعيد الشهري نائباً له. وفي إعلان الدمج كشف التنظيم عن أجزاء من برنامجه وأهدافه. والتي من أهمها استهداف المصالح والمنشآت النفطية في السعودية أولاً حيث المصالح الأمريكية الأكبر في الشرق الأوسط، واليمن وغيرها من الدول المجاورة.
الوحيشي كان أحد أبرز ال 23 الفارين من سجن الأمن السياسي بصنعاء. وكان بمثابة أمين سر زعيم القاعدة أسامة بن لادن في أفغانستان. وفي أواخرالعام 2001 اعتقل في إيران، وتم تسليمه لليمن في العام 2003. ويتساءل البعض فيما إذا كان الرجل هو الزعيم الحقيقي للتنظيم من بين الكثير من القيادات الهامة بوجود مجموعة من السعوديين الكبار أمثال نائبه الشهري الذي يعد أحد القادة الكبار ممن أطلق سراحهم من معتقل جوانتنامو. أضف إلى ذلك، مكانة السعودية من حيث العدد والعدة.
لكن الجمحي - الذي يعتقد أن "إعلان يناير2009 " هو التأسيس الجديد للتنظيم بعد تلك الفترة الصعبة التي مر بها- لا يعتقد حدوث مثل هذه الأمور داخل تنظيم القاعدة. "فهذا التنظيم لا يشبه التنظيمات السياسية". ويستدرك: "صحيح هي تنظيمات سرية لكنها غير موغلة في السرية إلى هذا المستوى". وبالتالي – من وجهة نظره - "لا يمكن أن يكون لها قيادات ظاهرة وقيادات مخفية هي التي تقود العمل، كما قد يحدث في العمل السياسي الحزبي". كما أن "ناصر الوحيشي هو زعيم التنظيم في جزيرة العرب، بإقرار وتعميد الظواهري الذي قال عنه أنه الرجل الشجاع والكفؤ..الخ. فقد كان ذلك بمثابة التعميد بعد إعلان الدمج". فهو يعتبر من أعضاء التنظيم ذوو الأسبقية، ومن الذين شاركوا في الجهاد في أفغانستان، وله صحبة شخصية مع قائد التنظيم أسامة بن لادن، بما يجعله مقبولاً وكفؤاً لقيادة التنظيم الجديد".
عدد القاعدة في اليمن في الواقع لا يمكن تحديد عدد معين لتنظيم يعمل بشكل سري ويطارد أعضاؤه على مستوى العالم. يقتلون ويعتقلون، وينتقلون من مكان إلى آخر. ليس لديهم جغرافية محددة، ويوصف مقاتلوه بالأشباح..فكرهم وأهدافهم ذات مساقات دينية عقدية بطريقة موجهة تخاطب العاطفة لا العقل والمنطق..ووفقاً لذلك فهم يتزايدون، وليس هناك عدد معين لإحصاء أعدادهم. أضف إلى ذلك، أن سهولة استقطاب أعضاء جدد، ليس مناطاً بالخلفية الدينية المترافقة مع خطاب عاطفي ديني، بل هناك أيضاً، ما يمكن أن يشترك فيه الكثير من الشباب الإسلامي الرافض لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط وضد المسلمين بشكل عام..
لكن -ومع ذلك- هناك بعض الأرقام التي وردت بشكل منفصل. وينسب لناصر الوحيشي – زعيم التنظيم الجديد - قوله بتجنيد 12 الف مقاتل للقاعدة في اليمن. بينما أن أحد المسئولين اليمنيين - قبل فترة – قال برقم أكبر منه يتجاوز ال 15 الف (اعتبر البعض ذلك تهويلاً لإشعار الخارج بحجم الخطر. كما اعتبر البعض ما نسب للوحيشي مجرد تهويمات غير صحيحة إنما أراد منها بعث الهمة لكسب أنصار جدد، إضافة إلى بعث اليأس عند الدولة من قوة التنظيم ربما..)
وبعد الضربات الأخيرة، نسب لوزير الخارجية اليمني الدكتور أبوبكر القربي قوله أن عدد أعضاء القاعدة في اليمن بين 200 – 300.
وفيما يعتقد الجمحي أن هذا العدد لا يستهان به، إلا أنه -في تقديره– يعتقد أن أعضاء التنظيم في اليمن يمكن حصرهم بين ال 2000 ، وال 3000 ..
وجاء هذا الرقم باعتماده المقاربة التالية: أنه إذا اعتمدنا تقديرياً نسبة ما، لمن كان موجوداً في اليمن، إضافة إلى تقدير نسبة الأعداد التي قدمت من المملكة العربية السعودية، إلى جانب تقدير نسبة من تم استقطابهم خلال الفترات القليلة الماضية، وربما نسبة تقديرية لمن تم استدراجهم بعد الضربتين الأخيرتين.. فقد لا يقل العدد عن 2000 شخص، وربما لا يزيدون عن 3000 شخص.
ومع اعتباره أن هذا الرقم كبير إلا أن السؤال بالنسبة له يأتي على النحو التالي: من هم الفاعلون من بين هذا العدد؟ يجيب: من غير المعقول أن يكون الألفان أو الثلاثة آلاف متواجدين في معسكرات تدريبية، أو متواصلين بشكل دائم ومستمر. فهناك بضعة مئات وهم الفاعلون في اعتقادي يتنقلون من مكان إلى آخر، في الأماكن البعيدة والنائية، وهم المطاردون والمطلوبون لدى السلطة، بينما الأغلب يعيشون حياتهم في المجتمع بشكل طبيعي، وربما يتم التواصل مع بعضهم وفق آلية تراتبية معينة للتنظيم لتنفيذ العمليات. وهذا ما يقولونه في مواقعهم الالكترونية. ففي "صدى الملاحم"، تقول القاعدة: أعضاؤنا يسيرون في الشوارع ويتقابلون في باب اليمن. ويتحدثون فيها عن قصص حميمية لتجييش العواطف بين أنصارهم..