الإهداء إلى الزميل الأستاذ هشام باشراحيل في معتقله
باعتقال الزميل هشام باشراحيل، الذي يعد احد ابرز رموز الصحافة اليمنية، تكون القناعة لدينا –كرعايا للديمقراطية- قد دلفت مرحلة التأصيل في أمرين، أولهما: أن العقلاء لم يعد لهم مكان في مقيل الصالح الذي غالباً ما يتمخض عن انفضاضه جل القرارات الهامة، وحتى إن بقي لهم مكان، فحكمتهم لم يعد لها ذلك المفعول السحري في توجيه دفة القرار السياسي نظراً لتعارضها، على الأرجح، مع الأهداف الوراثية للحاكم.
ثانيهما: ان قرار التراجع عن حرية الصحافة قد اتخذ بالفعل ولم يعد قابلاً لإعادة الدراسة مادامت الدول الراعية للديمقراطية تستمرئ غض الطرف إزاء ذلك التراجع وتجفل عن تقديم واجب الحماية لرعايا الديمقراطية اليمنية الذين باتوا يواجهون قمعاً أمنياً منظماً وممنهجاً دون دروع واقية.
تمادي مثير للدهشة
كأحد المؤمنين بوجود استراتيجية سلطوية كاملة الأركان لاستهداف الصحافة، لم أكن أتوقع إطلاقاً أن يبلغ جزء الاستهداف الخاص بصحيفة الأيام حد إيداع رئيس تحريرها خلف القضبان، السبب ببساطة يكمن في اعتقادي (الخاطئ) بان السلطة ستكتفي بالنتائج الكارثية (الجيدة من وجهة نظرها) التي نجمت عن الحصار الأمني، وفي مقدمتها بالطبع منع صدور الصحيفة.
قبل الاعتقال كنت أظن أن غاية السلطة تتركز في كيفية إبقاء منبر الأيام الحر تحت طائلة الإغلاق، واستخدام ذلك الإغلاق كأداة ضغط لإجبار الناشرين هشام وتمام على التخلي عن نهج المهنية في التعاطي مع القضايا والأحداث واستبداله بسياسة تحريرية تتوافق مع هوى السلطة أو على الأقل لا تتعارض مع اتجاهات ذلك الهوى.
أبرز ما كان يعزز ظني الآثم، القرار السياسي القاضي بتشكيل لجنة رئاسية لاحتواء ومعالجة الوضع المتأزم الذي تعيشه مؤسسة الأيام.
كانت الصدمة المصحوبة بتقاسيم الدهشة هي الصورة التعبيرية للعبدلله، وربما للكثيرين ايضاً لحظة وصول نبأ اعتقال رئيس تحرير الأيام، إذ لم أكن أتصور كما هو حال كثيرين ان يمنح حاكمنا الموصوف ب(سعة الصدر) المنعوت ب(الحكيم اليماني) الضوء الأخضر لأجهزته بالتمادي في ظلم الأيام وقهرها إلى المستوى الذي تبدو فيه القضية شخصية اكثر من كونها سياسية.
إخضاع هشام باشراحيل
دون عناء سنجد أن إخضاع هشام او بالأحرى إذلاله، هو الغاية المرجوة من وراء افتعال الأحداث الأخيرة، هاكم ما يمكن اعتباره تأكيداً على ذلك.
منع صدور الصحيفة وما أنتجه من خسائر مادية فادحة، لم يكن عنوان المعاناة الوحيد بالنسبة لهشام باشراحيل، فأمنه الشخصي تعرض لانتهاكات عدة كان ابزرها حادثة الهجوم على منزلة في صنعاء، صحته جسدت عنواناً لمعاناة أخرى، فالرجل يعاني إعتلالاً في عضلة قلبه، في حين أن جسده يقاوم أمراضاً تستوجب الراحة والاستشفاء الدائم وهو ما حالت السلطة دون حدوثه إذ لم تسمح باستكمال برنامجه العلاجي وحجبت عنه الراحة بإيداعه المعتقل.
تقييد الحرية، معاناة ثالثة لم تبدأ بالاعتقال، إذ كان هشام ممنوعاً من السفر خارج أرض الوطن وموضوعاً تحت الإقامة الجبرية منذ حصار الصحيفة ومنع صدورها، هذا طبعاً عدا عن معاناة رابعة ذات بعد سيكولوجي (معنوي) ناجمة عن الحصار والملاحقة القضائية والأعباء المالية.
لو لم يكن إخضاع هشام وإذلاله هو السبب الحقيقي، لإكتفت السلطة بمسلسل المعاناة المكسيكي الآنف، ولما أجازت لعسسها الإمعان في تلك المعاناة وإبلاغها أعلى درجات الإيذاء والتنكيل.
تنازلات دون طائل
هنا تحديداً، ليس بالإمكان تجاهل علامة استفهامية تفرض ذاتها بقوة: ما هو المطلوب من هشام باشراحيل بالضبط..؟
فالرجل أبدى موافقته على كثير من الشروط التي وضعتها اللجنة الرئاسية المكلفة بحل أزمة الأيام والمكونة من الفريق عبدربه منصور هادي واحمد مساعد حسين والدكتور يحيى الشعيبي، ليس هذا فحسب، لقد أبرم هشام مع اللجنة المذكورة اتفاقاً موثقاً يتضمن موافقته على معظم تلك الشروط، مبدياً تعاوناً لافتاً لغرض إنجاح أعمال تلك اللجنة.
كما انه أبدى استعداده للقبول (الاضطراري) بسيناريو إيقاف الصحيفة على طريقة كفى الله المؤمنين شر القتال، وذلك في مقابل السماح له ولأسرته بمغادرة البلاد والحصول على اللجوء السياسي في بريطانيا.
غير ان الممسكين بزمام السلطة الفعلية كان لهم رأي آخر، فتوصيات اللجنة التي يرأسها نائب رئيس الجمهورية، جوبهت برفض أكد واقعية أمرين، الأول: هامشية التمثيل الجنوبي في السلطة وعدم قدرة المسؤولين الجنوبيين على إنفاذ القرارات، والثاني: إنعدام رغبة السلطة في إعمال الدستور والقانون كمرجعية للتعاطي مع قضية الأيام وتركها رهناً للأمزجة والأهواء.
الرفض ذاته كان ومازال هو الرد المعتمد لدى أصحاب القرار لمواجهة رغبة آل باشراحيل الاضطرارية في إغلاق الصحيفة ومغادرة البلاد عبر نافذة اللجوء السياسي.. إذن ماذا يريدون من هشام باشراحيل..؟
ماهو المطلوب من الأيام
إن لم تكن معنا فلن نسمح لك بأن تكون ضدنا..!! عبارة يمكن ان تجسد أكثر الإجابات تمتعاً بالمنطق على الأقل من وجهة نظري.
فهشام باشراحيل، ليس مجرد صحفي، إنه زعيم سياسي يحظى بتأييد شعبي غير مقتصر على ساكني محافظة عدن بل يتعدى ذلك إلى محافظات جنوبية أخرى، وهو بالإضافة لما سبق يرأس تحرير المطبوعة الجماهيرية الأولى في اليمن، وبالتالي فقدرته على تكوين رأي عام مرتفعة جداً تماماً مثلما هو الحال مع قدرته على تغيير قناعات كثير من الجنوبيين.
هنا وليس في مكان آخر يكمن شيطان التفاصيل، فالنظام يعتقد أن الأيام أيقظت في دواخل الجنوبيين مارد الاستقلال الذي أعيا النظام وأعجزه بصورة جعلته يعتقد ان إعادة ذلك المارد الى قمقم السبات مجدداً أمر لا يمكن انجازه دون إسناد من الصحيفة، وهو ما يقتضي بالضرورة إجبارها على تأدية هذه المهمة التي تتقاطع مع نهجها المهني والتزامها الأخلاقي إزاء قضايا جمهورها.
ماذا لو كان هشام شيخاً
هل كانت السلطة لتجرؤ على التنكيل بهشام واعتقاله والإمعان في إيذائه لو أنه كان شيخاً في حاشد أو بكيل او عبيده او آل فضل..؟ النفي القاطع سيكون أقوى الإجابات اتصافاً بالصواب، فسطوة السلطة لا تظهر إلا على منتسبي المجتمع المدني، حالها في ذلك شبيه بالمقطع الشعري (أسد عليّ وفي الحروب نعامة...الخ).
الدليل ببساطة ان السلطة لم تجرؤ على مجابهة طارق الفضلي ومليشياته المسلحة التي تجوب شوارع ابين بالطول والعرض والارتفاع لدرجة انها اضحت تقوم ببعض مهام أجهزة الدولة، الجبن السلطوي عن مجابهة الفضلي تحول بين ليلة وضحاها إلى شجاعة عنتر حين أضحت الأيام هي المستهدفة..!
هل تخلت الدول العظمى عن الديمقراطية اليمنية
عقب اعتقال باشراحيل، أيقنت أن النبأ سيكون مفتاحاً رئيسياً للحصول على إجابة قاطعة حول موقف الدول العظمى من الديمقراطية في اليمن، لاسيما وهشام يرأس تحرير كبرى الصحف اليمنية المستقلة، فكما ان إدانة تلك الدول لحادثة الاعتقال ستبدد شائعات التخلي عن الديمقراطية اليمنية، فالتغاضي بالضرورة سيكون تأكيداً صريحاً لمضمون تلك الشائعات.
بانقضاء أكثر من أسبوع على وجود باشراحيل خلف القضبان، دونما إدانة صريحة من تلك الدول، تكون الشائعات قد اقتربت من التحول إلى تأكيدات.
يمكننا إذن ان نجزم بالآتي: لقد رفعت الدول العظمى يد الحماية عن الديمقراطية اليمنية مؤقتاً، تلك هي الحقيقة التي تعززها الأحداث بشكل لم يعد فيه من المجدي البحث عن ذرائع ومبررات لحجب تلك الحقيقة او محاولة نفيها.
بين حماية الديمقراطية ومجابهة القاعدة
التخلي عن الديمقراطية في اليمن، لا يعني بالضرورة ان دعم وجودها لم يعد هدفاً في أجندة الدول العظمى، للمسألة –هنا- علاقة بأولويات أنتجها إدمان النظام اليمني على افتعال الأزمات، والتي كان آخرها تضخيم دور تنظيم القاعدة في اليمن واختلاق مواجهات مع خلايا نائمة (غير فاعلة) لم يثبت قيامها بأي أنشطة جهادية في حين ان ارتباطها بالتنظيم مقتصر على الجانب الأيديولوجي فقط.
ماذا لو كان شرط الاختيار قائماً بين حماية الديمقراطية اليمنية والتخلص من المجسم الوهمي المخيف لتنظيم القاعدة اليمني، ثاني الخيارات سيكون –وفق شواهد الواقع- هو الاقرب بالنسبة للدول العظمى، على أمل ان لا يؤدي التخلي عن الخيار الأول إلى نهاية كارثية كالقضاء على الديمقراطية اليمنية مثلاً..!
هاجس الرعب من مارد القاعدة، قطعاً سيكون أعلى الدوافع تأثيراً ودعماً للخيار الثاني بحيث تأتي النتيجة الشرطية على هذا النحو: مادام النظام اليمني قابلاً لخوض معركة بالوكالة ضد القاعدة، ومادام سيمنح الدول الكبرى وبالأخص أميركا مزيداً من التنازلات السيادية والخضوع التام، فالمصلحة تقتضي احد أمرين: إما التخلي الكامل عن دعم الديمقراطية اليمنية باعتبارها مبعث تهديد وأداة إزعاج لاستمرار النظام الخاضع، وإما التخلي المؤقت عن دعم ومساندة الديمقراطية اليمنية لحين تحقيق الأهداف الإستراتيجية (كالتواجد العسكري مثلاً) ساعتذاك سيتم التكفير عن خطيئة التخلي بإعادة تشكيل النظام على نحو ديمقراطي مؤسسي يكفل إخضاع السلطة والثروة لطائلة التقاسم بما يضمن مصالح وكلاء الحرب ضد مارد القاعدة النائم في اليمن و يحقق الحد الأدنى من الرضى والقبول لدى معارضي النظام.
وماذا بعد
الإدراك المسبق لموقف الدول الراعية للديمقراطية المتغاضي عما يحدث للصحافة في اليمن، رغم انه يؤكد عبثيه مطالبتها بالتدخل، إلا ان ذلك لا يعني الاكتفاء بالصمت في مواجهة نهج التغاضي عن أخطاء النظام الفادحة في حق الصحافيين.
إذ يتعين على تلك الدول إدراك ما يمكن ان ينتج عن السماح للنظام الحاكم بتقويض أركان المجتمع المدني وإبطال فاعلية رعايا الديمقراطية في التأثير على الوعي الجمعي.
ثنائية التطرف والإرهاب، ستكون هي المآل الحتمي الناتج عن تحجيم الديمقراطية اليمنية، عندئذ ستدرك تلك الدول أنها ارتكبت خطأ جسيماً عندما سمحت للنظام باستهداف المجتمع الديمقراطي اليمني وستصل لقناعة بعد فوات الأوان أنها فقدت سلاحاً فعالاً لمواجهة التنامي المضطرد للتطرف والإرهاب في اليمن.
يمكن القول إذن، ان حماية الديمقراطية اليمنية ودعم المجتمع المدني وتعزيز حرية الصحافة أمر ضروري لنجاح الجهد الأمني في مواجهة الإرهاب، وبدون تأثيرات الديمقراطية اليمنية ودور المجتمع المدني والصحافة يصبح الجهد الأمني والعسكري شبيهاً بالحرب العبثية التي قد تؤدي لنتائج عكسية.
تأسيساً عليه نتساءل مختتمين: أليس حرياً بالدول الراعية للديمقراطية مراجعة نهج التجاهل في التعاطي مع ما يعانيه الصحافيون من استهداف سلطوي منظم في اليمن؟ وهل آن الأوان للإقلاع عن سياسة التجاهل المتبعة بشكل يحول دون اغتيال بقايا الهامش الديمقراطي في الصحافة اليمنية ؟ مجرد تساؤل ليس أكثر..!