وجدت هُدى، الطالبة بالصف الخامس الأساسي، نفسها وحيدة هذا العام, فرفيقاتها سلوى وإيمان وعائشة وغيرهن في إحدى مدارس القبيطة أجبرن على ترك فصول التعليم، بعضهن للتفرغ لمهمة توفير مياه الشرب لأسرهن من مناطق متباعدة والبعض الآخر غادرن قراهن مع الأسر إلى مناطق بعيدة بحثاً عن القليل من الماء. تواجه اليمن تحديات عدة منها السياسية والاقتصادية والتنموية والأمنية, لكن التحدي المائي، رغم خطورته مستقبلاً ومعالمه حاضراً، لازال في مؤخرة سلم اهتمامات الدولة والمجتمع على حد سواء, بل ويتشاركان في مسئولية ارتكاب جرائم تضاعف أخطاره ككارثة متوقعة.
ولا تقف معاناة اليمنيين في الحاضر بسبب المياه عند الأزمات التي يتعايش معها سكان المدن وندرة وصعوبة الحصول عليه لدى سكان الأرياف, لكن لتلك المعاناة وجهاً إنسانياً, حيث كان السبب الرئيسي لهجرة مئات الأسر من قراها وحرمان فتياتها من التعليم.
بل وأكثر من ذلك, هناك فتيات وأطفال وكذلك نساء ورجال يفقدون حياتهم أثناء بحثهم عن بعض اللترات من المياه, في الغالب تكون غير نقية, لتقي أسرهم فجيعة الموت عطشاً.
ف(هدى)، طالبة بالصف الخامس الأساسي، وجدت نفسها وحيدة في صفها خلال العام الدراسي الحالي, فرفيقاتها سلوى وإيمان وعائشة وغيرهن في إحدى مدارس مديرية القبيطة أجبرن على ترك فصول التعليم، بعضهن بهدف التفرغ لمهمة توفير مياه الشرب لأسرهن من مناطق متباعدة، والبعض الآخر غادرن قراهن مع الأسر إلى مناطق أخرى بحثاً عن القليل من الماء.
وقالت المصادر إن مئات الفتيات حُرمن من مواصلة التعليم الأساسي في 7 مدارس بمديرية القبيطة محافظة لحج, لإنشغالهن بالبحث عن الماء لأسرهن من مناطق بعيدة ومحيطة بقراهن، وأجبرت موجة الجفاف بعض الأسر على مغادرة قراها إلى مناطق أخرى.
وشهدت مدارس (حدابة, والسفيلي, وثوجان, وشرار) بالقبيطة وكرش, هذا العام، تراجعاً مخيفاً في عدد الفتيات الملتحقات بالتعليم, وأعادت المصادر التربوية ذلك التراجع إلى تزامنه مع موجة جفاف شديدة عانت منها تلك القرى بسبب شحة المياه ونضوب الآبار وندرة هطول الأمطار, وهو ما أجبر الأسر إلى مغادرة قراها نحو مناطق الراهدة ووادي ورزان بمحافظة تعز.
فجائع لا تتوقف طبعاً, ما ألحقه شُح الماء من ضرر بالطالبة (هدى) وزميلاتها, يعد هيناً مقارنة بمأساة (فاتن) وشقيقاتها في إحدى قرى وصاب بمحافظة ذمار, و(فاطمة) ورفيقاتها في إحدى مناطق السلفية بريمة, و(زينب) وأخريات في المحويت, ومثيلاتهن كثيرات في محافظات (حجة, إب, تعز, الضالع) وغيرها.
فبعد أن قطعت (فاتن) مسافة طويلة تتخللها جبال شاهقة ووعرة تحمل على رأسها وشقيقتيها أوعية بلاستيكية ومعدنية فارغة, خارت قواها كما خارت خيوط الحبل المتدلي نحو قعر بئر قريتهن العميق، وسقطت إلى داخله لتلحق بها شقيقتيها وهما تحاولان إنقاذها، ولم يخرجهن المنقذون إلا وقد صرن جثثاً هامدة.
ولا تتوقف أخبار مصرع الفتيات، خاصة في مناطق ريمة ووصاب وعتمة بذمار وغيرها, جراء سقوطهن في آبار المياه أو (برك) وسدود وحواجز مائية أثناء قيامهن بجلب المياه كمهمة يومية تتحمل المسئولية عنها داخل أسرهن.
وحدها أسماء (12 عاماً) في إحدى قرى قعطبة بمحافظة الضالع كان حظها أفضل, فقد سقطت في سبتمبر 2009 إلى قعر بئر يبلغ عمقها حوالي 100 متر دون أن تصاب بأي أذى.
وبالرغم من عمق البئر وضيق قطرها (حوالي 3 متر) والأحجار المرصوصة على جوانبها من الأعماق وأنابيب المضخة المائية التي تتوسطها, فقد كانت إرادة الله بأن تبقى أسماء (اسم مستعار) شاهدة حية على معاناة الفتاة والمرأة اليمنية واليمنيين عموماً ورسالة إنذار بكارثة أفدح ستطال الجميع مستقبلاً لو استمر الأمر دون حل. وقال شهود عيان إن أسماء كانت تقوم ب(دلاية الماء) بالطريقة التقليدية, حيث تستخدم الحبال لإنزال الدلو إلى قعر البئر وجره بعد امتلائه بالماء.
هرع أهالي قرية حبيل المناصيب بقعطبة إلى البئر لانتشال جثة الطفلة التي ظنوها فارقت الحياة ككثيرات غيرها ولعدم سماع استغاثتها, لكنهم وجدوها حية دون أي أذى أو حتى إصابات وكدمات, ولم يجدوا منها سوى الصمت المصحوب بالخوف من عقاب والديها لفشلها في إنجاز مهمتها اليومية.
أزمة خانقة تعاني البلاد (ريفاً وحضراً) من أزمة مياه خانقة. ووفق تقرير حديث لمنظمة الفاو، فإن متوسط حصة الفرد في اليمن من المياه المتجددة سنوياً تبلغ حوالي 125 متراً مكعباً فقط, وتعد حصة ضئيلة جداً لا تمثل سوى 1% من حصة الفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فاليمن تعد واحدة من البلدان القليلة التي لا تتوفر لها مصادر دائمة للمياه, ومعظم سكانها الأكثر من 23 مليون نسمة (يشكل سكان الريف منهم قرابة 70%), يعتمدون على مياه الأمطار مما يجعلهم يتأثرون سلباً بمواسم الجفاف ونضوب الينابيع.
وتضطر آلاف النساء والأطفال للمشي أو تسلق الجبال لمسافات تزيد عن 15 كلم للوصول إلى أقرب مصدر للمياه، بعضها يتراوح ارتفاعها بين 1500 و1800 متر, وتشكل خطراً على حياتهم التي قد يفقدونها بسبب التعثر والسقوط.
ويقول خبير بيئي بجامعة صنعاء، إن تناقص الأمطار خلال 7 سنوات مضت قد يكون ناتجاً عن تغير المناخ في المنطقة, مشيراً إلى أنه "في عدد من أنحاء اليمن، بما فيها المنطقة الشمالية الغربية، انخفضت مياه الأمطار من 300 ملم قبل 20 عاماً إلى 180 ملم خلال الخمس سنوات الماضية".
فمياه الأمطار مصدر وحيد لليمنيين يتم حجزها في خزانات معدنية أو بلستيكية أو حواجز وسدود وبرك أسمنتية، والقليل منها تغذي المياه الجوفية, وهما معاً تمدّان ما يزيد عن 23 مليون إنسان بالماء كسبب رئيسي للحياة.
لكن سبب الحياة ذاك يبدو على وشك النضوب، ففي مناطق ذات كثافة سكانية يتوقع خبراء وتقارير دولية وحكومية نضوب مياهها الجوفية خلال السنوات القليلة القادمة, ومنها مدن رئيسية تتصدرها العاصمة صنعاء.
وتشكو المدن الرئيسية والثانوية من قلة إمداد مشاريع المياه الحكومية, حيث تقوم بتزويد بعض المدن بالماء كل 45 يوماً, كما يحدث منذ سنوات في مدينة تعز, وبدأت تعاني منه مدينة صنعاء, فيما غالبية الريف لا تتوفر فيه مشاريع المياه الحكومية أو الأهلية.
وحتى المدن الرئيسية, فشبكات المياه لا تغطي كامل أحيائها ولا تفِ بحاجة سكانها, حيث أن مئات الأسر بالعاصمة صنعاء وضواحيها تعتمد للحصول على الماء على سيارات بيع الماء المنتشرة في شوارعها (وايتات) والتي تجلبه من آلاف الآبار المنتشرة في أحياء صنعاء والمناطق المحيطة بها.
عجز واستنزاف اليمن ضمن الدول الواقعة تحت خط الفقر المائي، لشح مواردها المائية. ووفق نائب رئيس مؤسسة المياه والصرف الصحي توفيق الشرجبي, فإن متوسط الهطول المطري في اليمن لا يتجاوز أكثر من 150 مم في السنة.
ويقل إجمالي المياه المتجددة سنوياً إلى 2.5 مليار متر مكعب سنوياً, في حين تتجاوز جملة الاستخدامات 3.5 مليار متر مكعب. ووفق الشرجبي, فذلك "يعني وجود فجوة هائلة بين الموارد وبين الاستخدامات تصل إلى حوالي مليار متر مكعب سنوياً", وذلك العجز المائي يتم تعويضه عبر الاستنزاف الجائر لمخزون المياه الجوفية.
غير أن الأكثر خطورة يتمثل في أن تراجع معدل الهطول المطري، إلى جانب ما يسببه من نقص في جملة الموارد المائية المتاحة عموما, شكّل سبباً مباشراً في الاتجاه نحو المزيد من الاستغلال لموارد المياه الجوفية والمزيد من حفر الآبار التي باتت تتجه بصورة متسارعة نحو الأعمق.
ويؤكد الشرجبي أن ذلك "أدى إلى عملية استنزاف جائر لهذه الموارد نتيجة لتجاوز معدل الاستخراج معدل تجدد المورد", مشيراً إلى أن معدل الاستنزاف في بعض الأحواض يصل إلى أكثر من 400% تقريبا, وبلغ معدل الهبوط السنوي لمستويات المياه الجوفية جرّاء ذلك حدوداً كبيرة تتراوح بين 6-8 أمتار في حوض صنعاء وحوالي 1-3 أمتار في مناطق تهامة، في حين تقع باقي الأحواض ما بين هذين المعدلين من الهبوط السنوي لمناسيب المياه الجوفية.
ويرى في تصريحات صحافية مؤخراً أن هذا مؤشر خطير، يضع الأمن المائي والغذائي في اليمن كله على كف عفريت "ما لم تتوقف عملية الاستنزاف الجائر للموارد المائية المحدودة أساساً، خصوصا إذا ما أدركنا أن معدل التغطية بالمياه المأمونة في المناطق الحضرية لا يتجاوز 40%، في حين يبلغ حوالي 30% في المناطق الريفية".
تدهور مستمر ورغم أن الحاجة مازالت قائمة لتوسيع نطاق خدمات مياه الشرب لأكثر من نصف السكان، فإن موارد اليمن المائية تتدهور باستمرار في كثير من أحواضه، نتيجة للاستخدامات البشرية عموماً والاستخدامات الزراعية خصوصاً، التي تستهلك أكثر من 90 % من جملة الموارد المتاحة تقريباً, أكثر من 70% منها تذهب في زراعة أشجار القات وحدها.
وكشفت دراسة حديثة للبنك الدولي أن ري أشجار القات يستهلك قرابة 30 % من المياه الجوفية مقارنة بالاستهلاك القومي.
وتسوق الحكومة، ممثلة بعدة جهات في مقدمتها وزارتي المياه والبيئة والزراعة والري، الكثير من الأسباب التي جعلتها عاجزة عن تقديم حلول حقيقية لمشكلة المياه, مؤكدة أنها مسئولة عن تأمين الأمن المائي للسكان المنتشرين في أكثر من 400.000 تجمع سكاني على امتداد 555.000 كم2, وأنها لا تتحكم إلا في 10% من الموارد المائية المحتاجة أيضاً لإدارة وترشيد وحسن استغلال، فيما تذهب ال 90% لأغراض الزراعة التي لا زالت في الغالب تعتمد طرق الري القديمة.