الوضع في صعدة ليس طبيعياً، المشكلة الحقيقية في رأس الحجوري وعبدالملك الحوثي. قبل عام تقريباً، كُنت ضمن لجنة زارت دماج برفقة نخبة حقوقية هدفها تقييم الوضع هناك. فضت اللجنة النزاع حينها، وأصدرت تقريراً عن خلفياته وأسبابه وتوصيات عدم تكراره من وجهة نظر اللجنة. أهم ما أوردناه في تقريرنا، التأكيد على مسؤولية الطرفان في بلوغ الصراع ما بلغه، وحددت المسؤولية بحدود متفاوتة على عاتق أطرافه.
في أجواء «نزاع مسلح»، وهذه التسمية الصحيحة لما يسميه البعض حرباً ويسقط عليها مسميات مختلفة، ذهلت من تفاصيل كثيرة، فحيث يدو�'ي الرصاص وترتفع أصوات تكبيرات الحرب، بين الجماعات الدينية، يستمر الذهول فترة طويلة.
ففي صعدة جميع أنواع الشتائم يتوعد بها الحوثيون السلفيين، وبنفس الطريقة يتوعد السلفيون الحوثيين، تزدهر لغة التطر�'ف، إلى أن تصل ذروتها الطائفية. لا مكان لحمائم السلام هناك، ولا لكرنفالات الفرح. منذ البداية لاحظنا أن سرادق العزاء ستُقام عاجلاً أم آجلاً.
يقاوم السلفيون قوة تفوقهم قوة وذكاء، لكنهم يقذفون خصومهم بكل الفتاوى التكفيرية الموجودة في موروثهم الطائفي، وتسمع أيضا حيثيات الحوثيين ضدهم من التاريخ نفسه. كلا الطرفين مسلحان أيديولوجياً من العتاد نفسه، وعلى هذا المستوى، التوازن موجود وتاريخي. أما على المستوى المادي عسكرياً، الحوثيون ليسوا فقط الأقوى هم كذلك أصحاب الأرض، وملاحم المعارك على تلك المنطقة تاريخهم الطبيعي.
هذه حدود معروفة، ولذا رب�'ما كنا نسمع غرور القو�'ة عندما يخبرنا شخص حوثي يحمل بندقية أن الحل رحيل السلفيين إلى مكان آخر.
دماج عبارة عن مخدع سلفي هائل، وساخن، والأمر عند السلفيين يتعلق بوجودهم أيضا، ومهما كان الثمن وكلف الأمر، يقولون بصوت عالٍ إنهم باقون.. الأمر له علاقة بخطاب متواصل وخارج عصرنا. فالسلفيون يعيشون في دماج شهر عسل القرن الثالث الهجري بالكثير.
فكرت بالأمر بدل المرة مرتين، وطوال المدة الماضية، كيف يمكن إيجاد تعايش بين الخصمين؟ لا يمكن ذلك، إلا بإيجاد نظام ثقافي وفكري جديد لهم جميعاً. لكن أيضا أي مقترح لنظام بديل سيكفره الطرفان، وحقيقة سيتفقان ضده أو قد اتفقا دائماً، تقريبا هذه الصلة الفكرية الوحيدة التي يلتقيان حولها، أقصد معاداة أي نظام ثقافي وسياسي فكري جديد وحديث، وبديل صالح لأن يكون مدخلاً لحل الصراع.
قلت قبل قليل إن الحوثيين أقوى، فهم يمتلكون فعلاً أسباب القو�'ة. وفي المقابل السلفيون ليسوا أضعف - كما قد يتصو�'ر، فهم بالمقابل يمتلكون أبعاد القدرة.
بين القوة والقدرة نقطة توازن هامة. القدرة بمعنى الأبعاد الأخرى، كالإعلام والحلفاء والأيديولوجيا، وحشد المقاتلين. يدعم -على سبيل المثال- الإصلاح وقبائله السلفيين، هذه قدرة، يشبه الأمر قوة إسرائيل العسكرية الضاربة، وقدرة العرب، سكانياً، ومساحتهم الجغرافية التي تتفو�'ق على إسرائيل... فرغم أن إسرائيل أقوى عسكرياً، إلا أن العرب مجتمعين قدرتهم أكبر بكثير على الصمود، حتى بعد هزيمة عسكرية مثلاً. أبعاد القدرة كذلك أتاحت للاتحاد السوفيتي هزيمة ألمانيا، رغم قوة ألمانيا، وعلى سبيل المثال أيضاً.
هذا البُعد أعتقد أنه واضح ويظهر بشكل واضح من خلال حملات الإعلام والتحريض و، و، و.. الخ، استثمار هذه القدرة التي يُراهن عليها السلفيون أساساً تجري على قدم وحبة سوداء وعسل.
نزاع كهذا، تجارة دينية أيضا، تحفيز للتطرف، استقطاب يحقق السيطرة على العقول، أشياء كثيرة تقريباً جميعها تصب ضد المدنية، يتشارك الطرفان عند هذا الأمر، في تهديد أو تأخير المشروع المدني الوطني بهكذا نزاعات.
بعبارة أخرى، الشعب اليمني يدفع ثمناً كبيراً جراء صراع السلفيين والحوثيين، فهما الآن يقودان المزاج العام، عوضاً عن أن تقوده المشاريع المدنية، وعملياً ونظرياً النزعة الدينية المتطر�'فة التي يتكأ عليها الطرفان، بمجرد انتصار أيِ منها، سيكون الطرف المنتصر - آليا - عدواً شرساً للدولة الوطنية المدنية، وأراهن أن طبيعة الجماعات بل طبيعة الفكرة التي يحملانها مختلفة تماما عن طبيعة الدولة المدنية وفكرها. وأي حركة لا تؤمن بالتعدد ستسعى إلى تطبيق أحاديتها وفرض هيمنتها على كل شيء.
ألفت نظركم فيما أزعم: لا يوجد عازف بيانو واحد في إطار الحركتين، كلاهما يحملون البنادق، ويحرمون الغناء، قدرة رهيبة على عيش التخلف، ورفض عيش حياة التعايش والتمدن.
غريبة الحقائق ونقاط الشبه بين الحوثيين والسلفيين، أنهم عاجزون عن التعايش بما يعنيه المصطلح من معانٍ حضارية وإنسانية، ويقابله انسجام وتطابق «تحريم» الغناء وانتقاص حقوق النساء.
الحوثي يريد صعدة نظيفة من السلفيين، والسلفيون يريدون العالم خالياً من الروافض. يرى الشيخ الحجوري عبدالملك الحوثي بعمامة. ويرى السيد عبدالملك الحجوري بلحية، المشكلة الثالثة أن الاثنين -بغضب مجنون- يخوضان حرباً ضد بعضهما.
خلال التاريخ من ألف عام كان الحوثي والحجوري يتزودان يومياً من كتب الشيوخ والملالي، يعيشان بمعنى آخر صراع الأجداد، كان يزيد إيمانهما بكفر وضلال الآخر وواجب قتله، والآن يطبقان فقط حصيلتهما المعرفية كطالبين مجتهدين، تخرجا من كلية البيطرة ويقومان بعملهما.
كان يجب أن يدرس الاثنان نظريات أخرى حديثة (روسو، هيجل، ماركس، جون لوك، ارسطو، ابن رشد، الخ). كان الأفضل وضعهما في مدارس ليبرالية أو علمانية، على الأقل كُنا لن نسمع أن أياً منهما يفك�'ِر عن الآخر بطريقته الحالية. كنا كذلك لن نسمع أنهم يطلقون الرصاص على بعضهم أسفل جبل «البراقة».
أريد أن أقول فقط: السلفيون والحوثيون ضحية التاريخ.
التاريخ هو الذي يجب أن يموت، بعدها سيعيش أحفادهم بسلام، وقد يتبادلان البومات صور حرب صعدة ويسخران منها.