حين نحلم بالحرية فإن أفئدتنا تتجه صوب أوروبا. حين نرجو مواطنة متساوية فإن أمانينا تتجه صوب أوروبا. حين نضرب الأمثال في النجاح فإن العبارات تتغزل بأوروبا. حين نحلّق في تجارب الثورات فإننا نهيم في صفحات ثورات أوروبا الغاضبة على الظلم والقهر والاستبداد: الثورات الحمراء التي أطاحت بالبرجوازية, وقضت على الإقطاعيين، الثورات التي نجحت وتعثرت، قدمت الشهداء بالملايين وانكشف فيها زيف بعض ثوارها، تآمر عليها الداخل والخارج وانقضّ عليها وأطاح بها حتى جاء من يستأنفها ويبعثها من جديد بدماء جديدة. هذه الثورات ننسب إليها حياة نتمناها ونغفل عن الثورة الحقيقية التي لا يروّج لها أحد، إنها الثورة الصناعية التي قلبت موازين العيش في أوروبا، سارت الثورة الصناعية جنباً الى جنب مع الثورة الشعبية الغاضبة دون أن تنجز شهداء أو إجازة رسمية كأنما تتحداها أو تتنافس معها منافسة شريفة، لماذا لا نبدأ من حيث انتهى الأوروبيون ونبدأ ثورة من نوع آخر، ثورة لا تكبّلنا بشهداء وجرحى لتعتذر لنا بيوم إجازة رسمية في العام!
من أين يمكننا ان ننشئ ساحتنا الفكرية هذة المرة؟ ساحة بلا منصة يتسابق عليها المتسابقون أو خيام يندس فيها المندسون، ثورة لا تسقط أشخاصاً بل ترفع شعباً, كانت الثورة الصناعية نتجز السكك الحديدية التي تفتح الأسواق لمنتجات العمال وتوفر لهم سوقاً أكبر ومردوداً مالياً أعلى مما يمكن أن يحصلوا عليه من نجاحات التضامن الاجتماعي في أفضل أحواله. كانت تنجز صناعة الحديد وماكنات الغزل والنسيج وماكنات الطبع.
تم إنجاز ثورة البخار التي استخدمت في تشغيل الطواحين والمناشير بعد أن كانت تُدار بالمياة فقط فلم يعد هناك ضرورة لوجود الآلة بالقرب من مصدر المياه بل يمكن إدارتها في أي مكان، وبينما كان القادة العسكريون يدمرون الحياة بأسلحتهم، كان هناك علماء ينقذونها باختراع البنسلين الذي أصبح ثورة كبيرة في عالم الطب! استمر اكتشاف وإنتاج وتطوير البنسلين منذ بداية الحرب العالمية الأولى حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية! ولو تعمقنا أكثر لوجدنا ان الله لم ينقذ نبيه نوحاً بمعجزة إلهية بل ألزمة ان يصنع ما يعينه على النجاة من الطوفان القادم، علّمه صنع سفينة للنجاة وأخذ ما يلزمه للحياة وهو من يقول للحياة كوني فتكون، لكن الحياة الثورية لا توهب بالهتاف أو بالثبات على الحق وحسب بل بصنعها من العدم.
يصنع القادة العسكريون الانتصارات التي يحتاجونها لا ما يحتاجه الشعب ويصنع السياسيون الانتصارات التي يحتاجونها لا ما يحتاجه الشعب، لذا صار لزاماً على الشعب ان يصنع بنفسه انتصارات الحياة التي يحتاجها.