هناك سؤال مهم يطرح على الدوام حول الطبيعة الداخلية للإنسان: هل الأصل فيه الخير ام الشر؟ الأديان وفلسفة الأخلاق وعلم النفس والسلوك قاربت هذا السؤال المفصلي في فهمنا للإنسان و"وجوده الأخلاقي".. بالطبع لن نخوض في نقاش معقد كهذا, ولكن ما يهمنا مناقشة هذا السؤال في حيّز متعين وهو حيز السلطة. الاطلاع المتوسط على التراجم وسير الموجودين في حيز السلطة تاريخياً يقودنا الى تعميم (ولأنه كذلك فله استثناءات بالطبع) مهم: الأصل في الإنسان الكائن في حيّز السلطة هو الشر وانحلال القيمة.. ولا يهم هنا صفة "الفضاء" القادم منه: متدين, غير متدين, ثائر, مناضل .. الخ , الأهم هنا هو مستقر المرء وهو حيّز السلطة.. بل ان كثيراً من الفسدة الأفّاقين في السلطة تاريخياً جاؤوا من فضاءات الدين والثورة والكفاح ضد "الظلم"!, لأن السلطة هي الموفّر الأهم لإمكانية ان يمارس الإنسان الشر والتعالي على القيمة الأخلاقية.. وعدم فهم هذه النقطة هو ما يجعل الناس "تنصدم" بالمسؤولين القادمين من فضاءات يفترض أنها "عالية أخلاقياً" مثل الثورة ومقاومة الظلم, وترى في سلوكهم الأخير عند وصولهم إلى السلطة تكذيباً لما كانوا يقولونه وهم في حيّزهم الأول, وهذا ليس صحيحاً دوماً: أحياناً يكون هؤلاء صادقين فعلاً في "نضالهم" من موقعهم وحيزهم الأول, ولكن السلطة لأنها توفر لهم إمكانية ممارسة الشر, تظهر جلياً لهم صعوبة الاختيار الأخلاقي, فيسقطون غالباً بعد ذلك أمام صعوبة إنجاز انحياز أخلاقي رفيع.
ولهذا, فإن الثقافة الديمقراطية واحترام القانون تستبطن دوماً سوء الظن بمن يعمل في حيز السلطة, وتعامله ك "مشروع فاسد محتمل" حتى يثبت العكس! ... وعليه فإن ما نراه هذه الأيام من فساد مدهش في وقاحته من قبل القادمين من "الثورة" يعطينا جميعاً درساً مهماً: الأصل هو سوء الظن برجل السلطة, وليس الاعتقاد بخيريته, على الرغم من صعوبة هذا نفسياً خصوصاً بعد ثورة شعبية ملأت النفوس بالأمل.. ولكن التعامل مع "الإنسان" بوضوح أجدى على المجتمعات من صناعة الأوهام, لأنها حين ذاك لن تركن اليه, وستراقبه وتنتظر منه الهفوة التي ستصيبه في مقتل!
لا داعي للابتئاس, ان هذه الصدمة التي تبدت في تفاعل الناس مع جرائم الفساد "الثورية" قدمت للمجتمع درساً مهماً: درساً في السياسة ودرساً في الفهم السليم للإنسان.. وما علينا جميعاً من الآن إلا ان نشن حملاتنا على هؤلاء الفسدة "الثوريين", وان نسيء الظن دوماً بحيّز السلطة والانحياز الأخلاقي لمن هم فيه في كل زمان وكل مكان.