هناك فارق كبير جداً بين رفض أي قرار حكومي؛ كقرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية؛ أو ما شابهها من قرارات؛ وبين الدعوة إلى التمرد والثورة وإسقاط الحكومة، وإعلان مدة خمسة أيام إنذاراً نهائياً قبل أن يصير الوجه من الوجه أبيض.. فمن الملاحظ أن الحوثة الذين يروجون للثورة ضد الدولة بحجة رفض الجرعة؛ مدعومين من المتضررين من الثورة الشعبية ضد النظام السابق؛ يروجون لتشابه مبررات رفض الجرعة ومبررات الثورة الشعبية لتبرير تمردهم وتنفيذ مخططاتهم للاستيلاء على السلطة.. ولكل مبرره.. فالنظام السابق يريد أن ينتقم من ثورة الشعب عليه بنفس الطريقة التي واجهه بها الشعب (أي الانقلاب على الانقلابيين على حد التعبير المنسوب لسلطان البركاني)، وقد حاولوا مرة سابقة عند إعلان الجرعة تهييج الشارع، وتدبير المسيرات لإثارة الفوضى، وقطع الشوارع باتجاه الثورة.. وفشلوا يومها بامتياز؛ (قرأت أيامها في صحيفة "التجمع" لقطة ذات دلالة أظنها للمحامي هائل سلام.. ذكر فيها كيف رأى في تعز مجموعة من الفتيان يحملون زجاجات البترول ويتهيئون لإحراق إطارات في أحد الشوارع.. ومعهم كان مصور صحيفة أو قناة "اليمن اليوم" يهرول ليلحق تصوير العملية!). والحوثة بدورهم يظنون أن تبنيهم رفض الجرعة يعطيهم مبرراً لإسقاط الدولة ووراثتها بدعم شعبي، وأن الظروف صارت مهيئة لهم للانقضاض على العاصمة صنعاء؛ أو على أجزاء كبيرة منها، والاستيلاء عليها بحجة إقامة اعتصامات سلمية لرفض الجرعة والمطالبة بإسقاط الحكومة! وتكرار ما حدث أيام الثورة الشعبية ضد نظام صالح!
ما يتجاهله الطرفان المذكوران أن هناك فرقاً جوهرياً بين رفض قرار سياسي أو اقتصادي لحكومة من الحكومات يجوز الخلاف حوله.. وبين رفض نظام كامل يئس الشعب من إصلاحه، وفشلت كل المحاولات المحلية والدولية لإقناعه بأن يعتدل، وأصر أنصاره على إغلاق كل سبل الإصلاحات الحقيقية.. وتأميم البلاد والعباد والثروة والسلطة لصالح الحزب الحاكم وزعيمه وأبنائه وأقاربه بحيث صار لا مفر منهم ولا من حكمهم مهما طالت السنين وتعددت الانتخابات!
هذا هو الفارق المهم.. ففي حالة الخلاف حول قرار ما فمن حق المعارضين أن يعبروا عن موقفهم بالمسيرات السلمية وحتى الاعتصامات، وإيصال آرائهم بوضوح للقيادة (كما يحدث في صعدة وعمران ضد السلطة الحوثية.. لا تصدقوا: مجرد مزحة خفيفة!).. وطبعاً دون سلاح، ولا تهديدات وإنذارات بالثورة وإسقاط النظام كما يفعل الحوثة هذه الأيام! لأن الخلاف مثلاً حول الجرعة السعرية ليس خلافاً حول ثابت من الثوابت الوطنية والإسلامية والدستورية الديمقراطية التي تسقط شرعية الحاكم إن انقلب عليها (قبل شهور رفعت الحكومة الإيرانية أسعار المشتقات النفطية ومثلها فعلت دول أخرى).. وسياسات إلغاء الدعم مثل السياسة الخارجية من الأمور الخلافية بين القوى السياسية.. ومعظم المتحفظين والرافضين عن الجرع في بلادنا يفسرون موقفهم بأن سياسة الجرعات السابقة فشلت لأنها لم تكن مصحوبة بإصلاحات مالية وإدارية حقيقية، وألقت بالأعباء على المواطنين انعكاساً لطبيعة السلطة القديمة.. واليوم هناك أمل أن ترافق الجرعة السعرية إصلاحات جادة.. وإلا فإن الموعد هو الانتخابات القادمة!
الحزب الناصري مثلاً يعارض الجرعة؛ لكن قصارى ما يمكن أن يفعله إلى جانب معارضته سياسياً وإعلامياً هو سحب ممثله في الحكومة، واستقالة أعضائه الذين يعملون مستشارين للرئيس أو لرئيس الحكومة أو في المناصب السياسية! وكلنا ما يزال يتذكر أن الحكومات في زمن النظام السابق رفعت أسعار النفط والكهرباء والمياه (والرشاوى وحق ابن هادي) عدة مرات، وألغت الدعم عن المواد الغذائية الضرورية.. وكثيرون عارضوا تلك القرارات لكن لم يدعُ أحد إلى إسقاط النظام أو حتى تغيير الحكومة بالفوضى والسلاح كما يفعل الحوثة بدعم خفي من قوى أشرنا إليها سابقا.. والمؤكد أن المظاهرات الغاضبة التي كانت تخرج في تلك الأيام وتخرب وتدمر كان وراءها أجهزة أمنية تستغل غضب الجماهير لخلط الأوراق، وتبرير القمع، وتمرير الجرع.. بدليل أن لا أحد حوكم، وكانت تصدر دائماً قرارات بالعفو عن المخربين! وقد رأيت بعيني في جرعة 1998 متظاهرين بجوار رئاسة الوزراء وهم يخربون والعسكر بجوارهم هادئين ولا عسكر قصر الملكة إليزابيث الذين لا يتحرك شيء فيهم مهما حدث.. وكان الشخص الوحيد الذي دعا المتظاهرين إلى عدم تخريب بعض الممتلكات العامة يومها هو.. كاتب هذه السطور!
وبإمكان أي جهة سياسية مثل الحوثة أن تظل ترفض القرار بعد إعلان معارضتها بأن تضع في برامجها السياسية القادمة بنداً بإلغاء الجرعة؛ وبل كل الجرع من بداية الوحدة والفترة الانتقالية عندما رفعت حكومة حيدر العطاس أسعار النفط 100% .. وعندما تحصل على الأغلبية في البرلمان فمن حقها أن يكون أول قرار لها إعادة أسعار المشتقات النفطية إلى حالتها أيام الإمام البدر.. أو حتى إلى أيام الإمام يحيى.. فهذا من حقها طالما حصلت على الأغلبية في الانتخابات.. ولن يكون أمام المعارضين إلا اتباع الأساليب السلمية حتى يصلوا إلى السلطة وينفذوا سياساتهم!
قد يقول قائل إن البلاد تمر بفترة انتقالية، وفيها كثير من الأوضاع غير السليمة إما موروثة من النظام السابق.. أو هي نتيجة للمبادرة الخليجية، ولا يمكن الآن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لتغيير الحكام والحكومة.. ومن ثم فلن يستطيع المعارضون أن يمارسوا حقهم في معارضة الجرعة السعرية وإلغائها وفق التقاليد الديمقراطية التي أشرنا إليها.. وليس من العدل أن نطالبهم بالانتظار حتى الانتخابات!
والرد على ذلك ممكن بالمنطق نفسه.. فالفترة الانتقالية هذه هي نفسها التي منحت الحوثة امتياز حكم عدة محافظات بالجملة والقطعة خارج سلطة الدولة، ورغم أنفها، وخارج نطاق الدستور والمبادرة الخليجية التي يعترف بشرعيتها الحوثة بدليل مشاركتهم في مؤتمر الحوار وأخذهم أمواله حلالاً بلالاً.. إذا هناك أوضاع غير سليمة في المناطق التي يحتلها الحوثة في صعدة وعمران وغيرها، وهم يتحركون كمليشيات عسكرية وليس كحزب سياسي مخالفة للقوانين المؤقتة والدائمة.. وهم يملكون أسلحة لا تملكها إلا الدول، ويتعاملون مع الدولة كند لها، وكدولة مستقلة، ويعتقلون ويقتلون ويدمرون كما يشاءون.. وهذا الوضع أسوأ من الجرعة بكثير، ولا تقبل أي دولة مثل هذا التمرد عليها سواءً أكانت مسلمة او يهودية.. شيعية أو سنية! ويرفضه كثيرون من اليمنيين من المتضررين من سياسات الحوثة وقراراتهم المالية كفرض الخمس، والمذهبية كمنع صلاة التراويح، وحتى الفنية كمنع الأغاني والموسيقى حتى في الهواتف السيارة، وهناك المشردون من ديارهم وممتلكاتهم النازحون في المخيمات وفي المحافظات الأخرى هروباً من طغيان الحوثي وإرهابه وإجرامه في حق المعارضين.. لكنهم لدواعٍ عديدة؛ منها خذلان الدولة وضعفها.. وتغليباً للسلام، وحقنا للدماء، وانتظاراً للانتهاء من إعداد الدستور وصولاً إلى إجراء الانتخابات الحرة.. لا يستطيعون أن يمارسوا حقهم في رفض هيمنة الحوثة لا بالمسيرات والاعتصامات السلمية، ولا بإسقاطهم ديمقراطياً عبر الانتخابات المحلية والتشريعية!
خلاصة الكلام.. الحوثي يتعامل مع الجرعة مثل تعامله مع شعار الموت لأمريكا وإسرائيل.. والموقف الحاسم اليوم من الرئاسة هو تصدر المشهد بقوة دفاعاً عن قراراها إن كانت تؤمن أنه صحيح ولمصلحة البلاد.. وعدم السماح بتقديم الأمر وكأنه فقط مواجهة بين الحوثي والحكومة.. أو بالأصح بين الحوثي ورئيس الوزراء والوزراء الإصلاحيين! وعدم التفريط بما تبقى لها من وجود في البلاد.. أو فلتعلن التراجع عن الجرعة وتنفيذ شروط الحوثي!