إذا صحت التسريبات التي نشرتها صحيفة مقربة من الحوثيين عن أسماء الوزراء (الثلاثة إصلاحيون) المتهمين عندهم بالفساد؛ مما كان سببا لرفضهم الحكومة الجديدة بدعوى عدم التزامها بمواصفات الكفاءة والنزاهة؛ فهذا دليل على أنهم ما يزالون يخوضون حربهم الانتقامية الشاملة المشتركة ضد الإصلاح بطرق أخرى، وأن محاربة الفساد بريئة منهم كبراءة حصار صنعاءبحجة إسقاط الجرعة والحكومة من رائحة الثورة! قلناها سابقا: إن أي حزب أو جماعة لا يحق لها أن تحول نفسها إلى سلطة وقوة أمنية بدعوى ملاحقة الفاسدين ومكافحة الفساد، ولا سيما إن كانوا متهمين بالإجماع المحلي والإقليمي والدولي بأنهم نهبوا معدات عسكرية بعشرات أو مئات ملايين الدولارات؛ لأن ذلك يفتح الباب لجهنم وفوضى كما هو حادث الآن.. وأسوأ من ذلك أن الفاسدين على اختلاف مستوياتهم سنجدهم يتصدرون الزحف ضد الفساد بأعلى الأصوات المنددة والعيون المبهررة ، وأقل مكسب يحققونه أنهم يحصلون على إعفاء من الاتهام بالفساد تقديرا لحماستهم الإيمانية.. المفاجئة!
[2] الضجيج الإعلامي عن وجود فاسدين في الحكومة الجديدة لا يراد منه إحقاق الحق والغيرة على المال العام، وإلا فإن الخطوة الأولى هي رد المال العام المنهوب من معسكرات الدولة ومنازل المواطنين ومقرات الأحزاب (وفي مقدمتهم منزل الوزير المتهم بالفساد/ عبد الرزاق الأشول الذي تعرض للنهب والسرقة من قبل طيور الجنة!) ثم بعد ذلك يكون أقوى موقف من الفساد هو تقديم دعوى مستعجلة بالوثائق إلى القضاء ضد فلان أو علان من الوزراء الفاسدين المعينين، وفي حالة إدانتهم فإن ذلك سيشكل إحراجا كبيرا لرئيسي الجمهورية والوزراء فلا يكون أمامهم إلا تغيير الوزير، بل ربما إن وجدوا أن الوثائق حقيقية والأدلة قوية فسيسبقون حكم القضاء بإقالتهم أو نصحهم بالانسحاب، وفي الحالتين فسوف يتعزز حكم القانون لمصلحة الجميع، وسيرفض كل فاسد بعد ذلك أن يترشح أو يقبل ترشيحه في أي منصب خوفا من الفضيحة قبل السجن! لسنا مجبرين للتأكيد على أن هذا الكلام لا يقصد به الدفاع عن الفساد والفاسدين، (وإن كنا نبرئ الوزراء: السعدي والأكوع والأشول من أي تهمة فساد لأننا نعرف نزاهتهم، وهم كغيرهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم. وهم لو كانوا فاسدين لما رضوا أصلا بأن يعودوا وزراء وهم يعرفون أن القوة المسلحة التي تسيطر على صنعاء تترصد بهم، ولن تتركهم لحظة يتهنأون لا بالوزارة ولا بما نهبوه!).. لكن كلامنا شفقة على هذا البلد أن يسقط في مستنقع حرب أهلية، ويتمزق شذر مذر لأن البعض يصر على أن يجعل من نفسه خصما وقاضيا و.. عشماوي في وقت واحد.. وهؤلاء الذين يسنون هذه السنة السيئة سيكونون هم أول من يعاني منها يوم تتكرر سنة الله في الكون: (وتلك الأيام نداولها بين الناس..)!
[3] الصراخ ضد الفساد والفاسدين في وسائل الإعلام أمر مفهوم ومشهور في اليمن، وحتى كبار الفاسدين كانوا وما يزالون الأعلى صراخا ضد الفساد. لكن أن تتحول أقاويل الصحف وتقاريرها المفبركة عن فلان أو علان –كما يحدث الآن- إلى حجة لأفعال انتقامية، وتهديدات بالسلاح، وتصفية لحسابات سياسية وطائفية وقبلية؛ فهو من أفعال العصابات وليس من الأفعال المتصلة بروح ومعنى الدولة والقانون التي أبرز ما فيها: تحقيق العدالة حماية للإنسان المتهم، وتوفير كافة الضمانات له لكيلا يظلم وتضيع حقوقه بفعل القوة الغاشمة! على أية حال؛ فالأوضاع العامة الخطيرة التي يمر فيها اليمن وبات على شفا هاوية، تحتاج إلى الإجراءات التي ذكرناها لمن أراد مكافحة الفساد حقا، ولا سيما أن كثيرا من اتهامات الفساد هذه هي من كلام الجرائد والمخبرين
الحزبيين.. وفي مثل هذه الحالة فإن مراعاة الوضع العام الحرج والصبر عن وجود فاسدين مفترضين لمصلحة راجحة أمر معمول به قديما وحديثا.. وها هم أشد المجاهدين الجدد المنتقدين للفساد اليوم اضطروا لمصلحة راجحة أن يقتصر جهادهم ضد الفاسدين على فئة واحدة وأفراد قليلين وغض النظر، ومعه الصحف واللجان الثورية، عن عدد كبير من أخطر الفاسدين الذين لو طبقوا عليهم قاعدة: (من أين لك هذا؟) لانشغلت اللجان عشرات السنين في عد الزلط والممتلكات المصادرة منهم! لنا وللحوثيين قدوة في نهج الإمام علي بن أبي طالب في مواجهة الاختلالات وحتى بعض مظاهر ما يوصف الآن بأنه فساد التي واجهها في عهده. ففي رواية صحيحة عند الهادوية أن الحسن بن علي وابن عمه عبد الله بن جعفر كانا يراسلان معاوية بن أبي سفيان في حياة الإمام علي وفي أيام صراعه معه يطلبان منه نقودا (أي باليمني: يجروا منه زلط)، وحتى أن الإمام علي استغرب ذلك أو كما تقول الرواية: [ وقال القاسم: قد كتب الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر عليهما السلام إلى معاوية يسألانه مما في يديه فقال لهما علي عليه السلام: أما استحيتما أن تكتبا إلى عدوكما تسألانه؟ فقال الحسن عليه السلام: أيش نصنع؟ ليس تعطينا ما تكفينا!].. وما أخذه الحسن لوحده ليس قليلا.. بل ألف ألف.. أي مليون! الشاهد هنا ليس فقط أن الحسن يجر زلط من معاوية الذي يكفره معظم الشيعة، لكن أن الإمام علي اكتفى بالاستنكار اللفظي، ولم ير فيه فسادا يستوجب استعادة مال للمسلمين أعطي بغير حق وأخذ بغير حق، ومن ثم لم يصادر المال على ابنه بتهمة أنه عملية فساد! [ هذا تصرف يتناقض مع ما يقوله الشيعة إن الإمام صادر مستهل خلافته كل ما أقطعه عثمان (ألا كل قطيعة أقطعها عثمان فهي رد إلى بيت مال المسلمين!).. فكيف تجوز مليون معاوية للحسن ولا تجوز قطيعة عثمان وهو أفضل منهما؟ وقد ثبت أن الرسول أقطع قطيعة لعلي من أرض ينبع لما غزا بطن العشيرة كما أقطع لغيره، وذكرت كتب التاريخ أن عمر وعليا نفسه أقطعا قطائع أيضا!].
وكذلك اعتذر الإمام عن ملاحقة قتلة الخليفة عثمان بن عفان رغم رفضه للجريمة وإدانته لها مؤجلا ذلك إلى وقت مناسب؛ لسبب بسيط وهو أنه كان غير قادر أصلا على محاسبتهم لأن لهم مددا وأعوانا، وكانوا يحتمون بقبائلهم وبسلاحهم .. أو كما قال: (إن القوم يملكوننا ولا نملكهم!).. وعندما طالبه أهل الشام بقيادة معاوية بالقصاص لعثمان اشترط عليهم شرطا صحيحا: أن يدخلوا أولا فيما دخل فيه الناس.. أي يبايعونه ثم يتبعوا الإجراءات الشرعية المعروفة في طلب القصاص! إذا؛ هذان موقفان شرعيان في مواجهة جريمة قتل، وفي مواجهة استقواء مليشيا مسلحة (إن جاز التعبير)، فقد كان علي يعرف مرتكبيها لكنه وجد أنه غير قادر على مواجهتهم التي ستؤدي إلى منكر أكبر.. وما يهمنا هو اشتراطه دخول أهل الشام في طاعته ثم اتباع الطرق الشرعية في الحصول على الحقوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! ومن المؤكد أنه ليس من تلك الإجراءات تنظيم اعتصامات مسلحة، والتهديد بتحويلها إلى ثورة كاسحة، إن لم يستجب لمطالبها في محاربة الفاسدين، أو تغيير الحكومة أو بعض وزرائها باتهامات عشوائية تعتمد على أقاويل صحف يملكها كبار الفاسدين، وصولا إلى اجتياح العاصمة والمحافظات والسيطرة عليها، وتفجير حروب أهلية وهم يزعمون محاربة فساد اللواء/ علي محسن أو الشيخ حميد الأحمر!
[4] سوف نجد أيضا أن الفقه الهادوي المبني على ما يقولون إنه سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونهج الإمام علي وأبنائه، يجيز التعامل والتحالف مع فئات أخطر بكثير من مجرد كونهم فاسدين مفترضين متهمين بالفساد، وأين؟ في صحف المؤتمر الشعبي العام(!!).. فمن المقرر في هذا الجانب عندهم أنه يجوز التحالف مع الكفار والفاسقين (هل يفسر هذا التحالف مع أنصار المؤتمر والطائرات الأمريكية بدون طيار؟).. ويجوز إعانة الحاكم الظالم على أداء الواجب رغم أنه ظالم أي: تجاوز منكر أنه ظالم لمصلحة.. وهل هناك مصلحة في أيامنا هذه أفضل من المحافظة على كيان اليمن ودماء أبنائها من الحرب الأهلية التي يلوح شبحها بسبب رفض البعض للحكومة الجديدة بمزاعم وجود فاسدين مفترضين بين أعضائها، ولو أدى إلى نفس ما حدث عند اقتحام صنعاء والمحافظات وإغراق اليمن في بحر من سفك الدماء واستباحة الأموال، وتمزيق الوطن في كل الاتجاهات؟ أحكام المذهب الهادوي في باب الاستعانة بالمخالفين تكشف أن القوم يجيزون الاستعانة ليس فقط بالفاسدين بل حتى بالدواعش والتكفيريين والكفار بمسميات هذه الأيام.. واقرأوا ما قاله الإمام يحي بن الحسين (الأحكام، ج2، ص471، نقلا عن المختار من صحيح الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الاطهار ومحبيهم الأبرار، فصل في الاستعانة بالمخالفين في الجهاد والجهاد معهم، للعلامة محمد العجري): [وقال الهادي عليه السلام: وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الجهاد، ويأمر به جميع العباد، ويستعين على الكافر بكثير من الفسقة، المنافقين، الظلمة، المخالفين.. وكذلك كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقاتل من قاتل بمن معه من الناس وفيهم: كثير من الفسقة، المخالفين، الظلمة، المنافقين، الخونة الظالمين..].
وإذا تذكرنا أن الإمام علي سمح للخوارج - أول مؤسسين في التاريخ الإسلامي لفكر التكفير وقتل المسلمين واستحلال دمائهم بدءا من قتل عثمان، أي كانوا تكفيريين ودواعش قاعديين!- أن يكونوا جزءا من دولته ومن جيشه إن أرادوا بشرط السلمية، ونهى عن قتالهم بعد موته (كما يقول الشيعة) رغم علمه بأنهم سيواصلون جرائمهم، فهل نكون مخطئين إن قلنا إن وجود وزراء فاسدين مفترضين دون حكم ضدهم أقل سوءا بكثير من احتواء جيش علي بن أبي طالب على كثير من أصحاب الصفات المخزية التي ذكرها الهادي؟
[5] الأمر لم يكن مقتصرا على المقاتلين الدواعش والتكفيريين الذين كانوا في جيش الإمام علي، بل يشمل حتى بعض أبرز قادته الذين قاتلوا معه وتولوا قيادة الولايات حتى وفاته، ومنهم الأشعث بن قيس (ابنته زوجة الحسن بن علي) الذي اعترض يوما على بعض كلام الإمام وهو يخطب، فرد عليه – وفق الرواية الشيعية التي لا تتناسب أبدا مع أخلاقه لكنها حجة عليهم- بكلام يبدو معه فاسدو اليمن اليوم أبرياء أطهارا، واقرأوا الرواية من نهج البلاغة: [ما يدريك ما عليّ مما لي؟ عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين(!) حائك ابن حائك.. منافق بن كافر، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منهما.. مالك ولا حسبك وإن امرأً دل على قومه السيف وساق إليهم الحتف لحريّ أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد !].
هذا أحد قادة الإمام علي المعصوم عند الشيعة، والذي ظل في منصبه حتى وفاة علي دون تغيير، رغم كل ما قيل فيه، فهل من ملامة على القائل: سلام الله على وزراء الإصلاح، وعلى حكومة باسندوة؟