ربما كان أحد مظاهر حسن حظ الاستعمار الأوروبي لبلدان كثيرة من العالم القديم؛ أن الأنظمة والحكام الذين خلفوا المستعمر بعد خروجه كانوا من السوء بحيث أن الشعوب ترحمت بسببهم على أيام الاستعمار وعلى ما كان فيها من إيجابيات؛ على قلتها وانحصارها في مناطق قليلة؛ ضاعت هي بدورها في ظل السياسات الفاشلة والصراعات الدموية على السلطة! وصحيح أن هناك بلداناً شهدت حالة من التطور والتنمية أفضل بكثير بل وبما لا يقارن مع أحوالها أيام الاستعمار؛ إلا أن السبب في ذلك يعود إلى امتلاكها لثروات ضخمة في باطن الأرض مع قلة في عدد السكان؛ مما أدى إلى تحولها إلى مجتمعات رفاهية، كما أن الأنظمة السياسية التي نشأت ظلت على علاقات قوية ظاهرة وباطنة بالاستعمار وإشرافه ورعايته، وغالبا فإن التحرر او خروج المستمر لم يكن نتيجة عمل ثوري مسلح! من برع يا استعمار إلى.. حيّا بهم! قد يكون مؤلماً أن يترحم الناس على زمن من استعمرهم ونهب بلادهم لكنها الحقيقة المرة التي لا ينكرها إلا مستفيد ممن خلفوه، وقد نشأت في بلد كان من المعهود أن تسمع فيه الناس (بعد أخذ الاحتياطات الأمنية اللازمة) يقولون: "الله يرحم أيام بريطانيا".. أما في حالة عدم ظروف الأمان فقد كانت السخرية جاهزة في الإشارة إلى نفس الفترة بالقول (مع غمزة بالعين): أيام الاستعمار.. البغيض! ودون تبرئة المستعمر من دوره في ترتيب الأوضاع لمجيء أنظمة وقادة سيئين او عملاء له؛ فلا شك أن إحباطات الحاضر، وسوداوية المستقبل القادم في ظل الأنظمة السيئة التي حكمت كثيراً من المجتمعات هو الذي دفع شعوباً؛كانت تدفع الدماء دون حساب كرهاً في الاستعمار وأملاً في رحيله؛ لفعل ما هو أسوأ من مجرد التحسر على أيامه، ثم ازدادت الحالة سوءا حتى جاءت أيام كانت قوى سياسة واجتماعية تذهب بنفسها إلى عواصم الاستعمار (القديم والجديد) لتحضه بإخلاص (!) على القدوم لغزو بلدانها وتحريرها من النظام الوطني الثوري الغاشم الذي يحكمها بالحديد والنار والكيماوي كما حدث في العراق، ويحدث الآن في سوريا! وربما كانت من المشاهد ذات الدلالة على ما نقول ما عرضته قنوات التلفاز العالمية عن بعض احتفالات الكويتيين بوصول قوات التحالف الدولي بقيادة الأمريكيين والبريطانيين إلى مشارف مدينة الكويت أثناء حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.. مثل ذلك الرجل الذي لبس العلم الأمريكي حول جسمه معتزاً به، أو الآخر الذي راح يقبل علما طالما كانت المشاعر الغالبة في الكويت تصنفه علماً للاستعمار والاستغلال! ويبدو أن ترحم البشر على الماضي الجميل (!) لا يقتصر فقط على عهود الاستعمار؛ فحتى توالي العهود الوطنية وراء بعضها صاحبه ظهور المشاعر والتقييمات نفسها؛ فقد راحت كل أمة لعنت أختها السابقة على طريقة أهل النار، وصار كل يغني على ليلاه أو زمنه هو ويبكي عليه ويصوره للناس بأنه(الزمن الجميل!).. ففي الجزء اليمني الذي حكمه الإمام لم يكن نادراً أن تسمع بعض كبار السن يترحمون على أيامه وهم يرون ضعف السلطة مقارنة بهيبتها أيامه؛ رغم أن الفوارق المادية ليس لصالح زمن الإمام بأي معيار.. وفي المقابل فقد جاء زمن ترحم فيه اليمنيون عل أيام الأتراك وخاصة في المناطق التي ظلت تحت سيطرتهم، وعرفت تحت حكمهم أشكالاً من التطور المادي أبرزها: البدء في إنشاء سكة قطار وإنشاء شبكة البرق، وبناء مؤسسات تعليمية وصناعية، والتعليم المجاني، والمشاركة الشعبية في إدارة شؤون المواطنين! عدن: مائة عام من التخلف الاستعماري! بعد مائة عام من السيطرة الاستعمارية على عدن؛ لم تكن المدينة في حالة تتفق لا مع مدة الاستعمار ولا مع مفهوم كلمة الاستعمار نفسه التي تعني العمران والتطور! ولعله من المناسب ونحن نحتفل الأحد القادم بذكرى الاستقلال الوطني أن نستعيد جزءاً من حقيقة تاريخية عن وضع عدن (أما بقية مناطق الجنوب فحدث عن التخلف فيها ولا حرج!) بعد مائة عام من احتلالها عام 1839.. فقد سجل المؤرخ اليمني الراحل سلطان ناجي (صاحب كتاب: التاريخ العسكري لليمن)؛ شيئاً من حقائق ذلك التخلف كما نشرتها في مقال قديم بعنوان: مائة عام من التخلف نقتطف منها ما يلي: "وقبل أسابيع، كنت أبحث في بعض الكتب الثقافية عن معلومات معينة فوجدت بحثاً للمؤرخ اليمني الأستاذ سلطان ناجي بعنوان: (الثقافة كميدان مواجهة بين التحرر والاستعمار: عدن1839-1937) وهو بحث سبق نشره في مجلة المستقبل العربي -أكتوبر 1981، ويتضمن البحث معلومات مثيرة عن المستوى المتخلف التي كانت عليه مستعمرة عدن خلال المائة سنة الأولى من الاستعمار البريطاني ولاسيما فيما يتعلق بالتعليم والثقافة! - افتتحت سلطات الاحتلال البريطاني أول مدرسة في عدن بعد 17 عاماً من احتلالها ثم أغلقت بعد سنتين فقط ولم يعد فتحها إلا عام 1866م أي بعد ربع قرن من استعمار عدن! وخلال العشر السنوات التالية (1866-1875) بلغ عدد التلاميذ اليمنيين العرب والمسلمين 6 طلاب بالتمام والكمال! فيما حافظ أهالي عدن على مدارسهم الوطنية الإسلامية الملحقة عادة بالمساجد.. وبعد 60 عاماً من احتلال عدن؛ وفي نهاية القرن التاسع عشر؛ بلغ عدد المدارس الحكومية الابتدائية ثلاث مدارس عربية تضم 256 تلميذاً فقط! فيما لم يزد عدد التلاميذ العرب في المدارس الحكومية الإنكليزية عن 16 تلميذاً من أصل 1768 تلميذاً والبقية كانوا من أبناء الجاليات غير العربية! وحتى عام 1937م لم تكن الدراسة في عدن تؤهل للالتحاق بالدراسة الجامعية أو العليا! وفي عام 1937وجه الأستاذ أحمد سعيد الأصنج رئيس نادي الإصلاح العربي الإسلامي رسالة إلى الزعيم السوداني عبدالرحمن المهدي يشكو فيها ضعف التعليم والثقافة في مستعمرة عدن، ومما جاء فيها "أن عدن لا يوجد فيها طبيب ولا مهندس ولا محام ولا أستاذ في التربية والتعليم من أبناء العرب!" وبعد 100 عام من الاستعمار (1937م) كان هناك 4 مدارس ابتدائية حكومية و6 مدارس ابتدائية معانة لا يتجاوز عدد طلابها 1000 تلميذ! وفي الأربعينيات بعد ضم عدن إلى وزارة المستعمرات البريطانية، بدلاً من تبعيتها للسلطة البريطانية في الهند، كان هناك أربعة فقط من الشباب يحملون مؤهلات جامعية تلقوا دراستهم في الخارج على نفقة أهاليهم! وعلى الرغم من أن أول مطبعة انكليزية دخلت عدن عام 1853م إلا أن الهدف كان استخدامها في الأعمال الشاقة في سجن عدن! وظلت كل المطبوعات تصدر باللغة الانكليزية حتى ظهرت مطبعة فتاة الجزيرة عام 1940م! واقع المستعمرات القديمة الراهن هو أصدق دليل على جريمة الاستعمار الأوربي في حق شعوب العالم الثالث أو الرابع.. إلخ.. وباستثناء العواصم وبعض المدن الكبرى فقد ظلت حالة البلدان صورة بشعة للتخلف، ويكفي أن نثبت هنا أن القارة الهندية (كانت تضم الهند وباكستان وبنجلاديش) عندما احتلتها بريطانيا كان إسهامها في الانتاج العالمي يساوي 25% مقابل 7% لبريطانيا، وبعد مائة عام من الاحتلال وحين جاء يوم الاستقلال انقبلت الأرقام بين البلدين! وظلت الهند ببلدانها الثلاثة تصنف كأفقر بلاد العالم وأكثرها تخلفا.. وربما ما تزال كذلك!". الكونغو.. الجريمة الكبرى! قبل أيام قرأت موضوعاً لباحث عربي يدعى أحمد الخطيب بعنوان: "حين تقتل 10 ملايين أفريقي لا يدعوك أحد هتلر!" عن جرائم الاستعمار البلجيكي في الكونغو.. وعلى قدر ما شاع وذاع عن مثل هذه الجرائم الاستعمارية إلا أن ما حدث في الكونغو يمثل الأنموذج الأبشع.. وهذه نماذج من فظائع لا نظن أن كثريين سمعوا بها من قبل: "هذا الرجل أكثر من 10 ملايين إنسان في الكونغو.. اسمه ليوبولد الثاني ملك بلجيكا.. كان هذا الرجل «يملك» الكونغو خلال حكمه للمملكة البلجيكية بين عامي 1885 و1909. فبعد عدة محاولات استعمارية فاشلة في آسيا وأفريقيا، اختار الكونغو لتكون هدفًا له. أول خطوة كانت «شراء» الكونغو واستعباد أهلها. كانت مساحة الكونغو تبلغ آنذاك ضعف مساحة بلجيكا 72 مرة؛ ولم يكن سكان القبائل فيها يستطيعون القراءة والكتابة. خدعهم ليوبولد ليوقعوا عقدًا يقول: في مقابل قطعة واحدة من الملابس في الشهر، تُقدم إلى كل من زعماء القبائل الموقعين أدناه، بالإضافة إلى هدية من الملابس لكلٍ منهم، يتخلى زعماء القبائل طوعًا ومن تلقاء أنفسهم، وورثتهم وخلفائهم للأبد… عن كافة حقوقهم في جميع أراضيهم إلى «الجمعية» (بزعامة ليوبولد)… ويلتزمون بتوفير ما يُطلب منهم من عمالة، أو غير ذلك من الأعمال أو الإصلاحات أو الحملات العسكرية التي تعلنها «الجمعية» في أي وقت، وفي أي جزء من هذه الأراضي… كل الطرق والممرات المائية التي تمر في هذا البلد، والحق في تحصيل الرسوم عنها، وجميع حقوق صيد الحيوانات والأسماك، والتعدين، والغابات، تكون ملكيةً مطلقةً للجمعية! لا نتعلم عن ليوبولد الثاني شيئًا في المدرسة. لا نسمع عنه شيئًا في الإعلام. كما أنه لا يمثل جزءًا من الروايات المتداولة عن القمع (الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال). إنه جزءٌ من تاريخ الاستعمار، والعبودية، والمذابح الجماعية في أفريقيا، التي تتعارض مع رؤية «الرجل الأبيض» للعالم، وتفوقه التاريخي على الأعراق الأخرى. وجد ليوبولد آنذاك مصدر ثراء نادر، كان العالم في هذه الفترة مأخوذًا باختراع العجلات القابلة للنفخ وعجلات السيارات. لذا زاد الطلب بشكل كبير على المطاط. المعلومة الأولى بشأن شجر المطاط هي أنه يحتاج إلى 15 عامًا على الأقل بعد زراعته ليكون صالحًا للاستخدام. كانت أرض الكونغو خيارًا مثاليًّا؛ فبها الكثير من الغابات المطيرة وأشجار المطاط..كانت طريقة ليوبولد الثاني لكسب الثروة وحشيةً، كان جنوده يقتحمون قرى القبائل الأفريقية في الأرض التي اسماها «دولة الكونغو الحرة»، ويأخذون النساء رهائن حتى يجبروا الرجال على الانتقال إلى الغابات ليجمعوا عُصارة المطاط؛ وحين يُستهلك الشجر تمامًا في مكان ما، كانوا يُجبرون على الابتعاد أكثر وسط الغابات. كانت عقوبة التهاون في العمل قاسية. استخدم ليوبولد الثاني مرتزقة أسماهم «القوة العامة» ليراقبوا «العبيد» خلال العمل، وإذا لم يحصلوا على الحصة المُحددة كانوا يضربون «العبيد» بالسياط، أحيانًا حتى الموت، أو يقطعون أيديهم تمامًا. من لم يموتوا بالتعذيب ماتوا تحت وطأة إنهاك العمل لساعات طويلة، أحيانًا دون طعام أو ماء! أما النساء الرهائن فلم يكُن في مأمن؛ كان الاغتصاب، والتعذيب، والتجويع حتى الموت ممارسات مألوفة. كل هذا كان يتم تحت ستارٍ من الحجج التي ساقها ليوبولد الثاني ليروج لاستعمار الكونغو، بدايةً من الأعمال الخيرية ونشر الديانة المسيحية، وحتى وقف تجارة الرقيق. لكن حملات ليوبولد القاسية لم تكن السبب المباشر الوحيد للموت. فبعد أخذ الرجال الأصحاء إلى العمل بالسُخرة، لم يعُد إنتاج الطعام كافيًا للنساء والأطفال والعجائز والرجال الضعفاء في القرى. كانوا يتضورون جوعًا، ويموتون. اجتاحت المجاعات أرض الكونغو؛ وتفشت أوبئة أودت بحياة الملايين مثل السل، والجُدري، وأمراض الرئة! هل ترى؟ حين تقتل أكثر من 10 ملايين إنسان أفريقي لا يقول أحدٌ أنك تشبه هتلر، لن يصبح اسمك مرادفًا للشر؛ ولن تثير صورتك الخوف، أو الكراهية، أو حتى الأسى، لن يتكلم أحدٌ عن ضحاياك، واسمك سينساه التاريخ!". انتهى كلام الكاتب.. فهل يحق للملايين ان تقول: اللهم اجعل غضبك على الذين جعلوا الشعوب رغم لل ما عانته من الاستعمار تقول: "الله يرحم أيام الاستعمار!".