هذا الرجل إذا كان في مزاج جيد يستطيع بكل بساطة أن يقتلك بإحدى نكاته أو حكاياته المضحكة. اسمه مبخوت، وهو من القرية المجاورة، وفي العادة يرتدي كوتاً أطول بقليل من مقاسه. وفي صغره لم يكن الأمر مختلفاً، كان في الواقع يرتدي القطعة العلوية من ملابس والده الداخلية (الفنيلة) فقط.. تتعلق من على أكتافه الهزيلة، ثم تترك نصف دائرة عارية من صدره قبل أن تمتد إلى تحت الركبة بقليل. في أحد أيام أوائل الستينات، عاد إلى بيته شبه عار، يقول مبخوت: كانت ولائم الأعراس تجذب الأطفال من كل القرى، وشاءت الصدفة السيئة أن يجتمع في يوم واحد أكثر من عرس، ولم يكن من المعقول أن نترك وليمة دون أن نجري إليها. كنا مجموعة أطفال ننتقل من عرس إلى آخر، وفي كل مرة نطل فيها على مكان الأكل يسارع الآباء إلى مبادرتنا بالسؤال التالي: "أكلتم يا عيالي؟" فنرد بصوت واحد "لا" ونهجم على المائدة أو ما تبقى منها، وكنت في كل مرة أشعر أن "الفنيلة" تقصر بعد كل وجبة. لقد كانت قصيرة أصلاً، وكانت بطني تتمدد في كل وجبة وترفعها قليلاً. وفي العرس قبل الأخير كنت متخماً، لكنني لم أتعود على الرد بنعم على سؤال إن كنت أكلت أم لا، اكتفيت بهز رأسي إلى اليمين والشمال وذهبت في اتجاه المائدة، وفي العرس الأخير حدث ما لم يكن متوقعاً: قمت من على المائدة وقد تجمعت الفنيلة كلها عند رقبتي! كنت عارياً تماماً، وبالكاد أستطيع أن أرى قدمي، لقد انتفخت بطني بشكل لا يصدق، ومع ذلك كنت أشعر بالسرور، رغم الرغبة الملحة في التقيؤ! لطالما أحببت سماع هذه القصة من مبخوت الذي يبدو اليوم أنيقاً في ملابسه، على غير عادة كثير من الذين نشاهدهم في القرية وفي المدينة على السواء، وكأن أغلب الناس على علاقة سيئة جداً بما يرتدون ويلبسون، ويبدون في مناطق عديدة على عداء دائم بالذوق والأناقة في بلد يعاني من التخلف في أغلب النواحي. شخصياً لا أعرف ما هي المشكلة التي تقف عائقاً بين اليمني وبين مظهره، وفي ظني أن الملابس تحتل مرتبة متأخرة جداً في اهتمامات الرجل اليمني، أقصد من حيث اختيارها وترتيبها، أو العناية بها، وتنظيفها، والمسألة هنا لا تتعلق بالفقر تماماً. مجلة أبواب عنونت أحد أعدادها بجملة صادمة: "مجتمع غير أنيق ينفق في سوق الملابس 71 مليار ريال خلال أسبوع".
الأمر أيضاً لا يتعلق بحرب صعدة أو الحراك في الجنوب، وليس لاسرائيل -بالطبع- علاقة بتحريض الرجل اليمني على أن يبدو متسخاً وقذراً وكأنه خارج للتو من مكب نفايات. هذه مسألة شخصية بحتة، لكنها تبدو في ظاهرها وكأن نصف اليمنيين اتفقوا على أن لا يغسلوا ملابسهم إلا مرة كل شهر، وجزء من النصف الآخر لا يهتم بترتيب ما يرتدي، ولو أن البائع أو الموظف أو العامل وقف لنصف دقيقة مثلاً وأغلق زرارات الثوب الذي يرتديه، وشد الثوب قليلاً من تحت الجنبية، ونفض الغبار من على كتفه، ورفع الشُرّاب قليلاً بعد أن يمسح الحذاء بأقرب رقعة أو ورقة لما كلفه ذلك ريالاً واحداً، ولبدا أفضل حالاً، لكن لا أحد يكترث لمثل هذه التفاصيل. أعرف أشخاصاً لا يرتدون في أغلب أيامهم إلا ملابس متسخة وبعضهم يزايدون عليهم ويرتدون ملابس أكثر قذارة، وأغلب من نشاهدهم في السوق أو المسجد أو نلتقي بهم في الشارع أو داخل باص الأجرة، يسيئون إلى صورة الرجل اليمني حين يظهر في تقرير تلفزيوني أو صورة فوتوغرافية أكثر مما يفعل الحزب الحاكم نفسه وتجار الحرب أو ناهبوا الأراضي. أربط بين اليمني وقلة الذوق وأشعر بالأسف، وألتمس من القارئ العذر، لكن من يقول لي لماذا تبدو أكوات اليمنيين أكبر من مقاساتهم؟ ربما لأن أجسادهم ضامرة ولا يجدون المقاس المناسب لهم، وربما أنهم لا يهتمون إن قصر الكوت أو طال. في الواقع يبدو أننا ننفق أوقاتاً طويلة في "المبايعة" على كوت أكثر من الوقت الذي ننفقه على اختيار المقاس المناسب، وفي العادة لا نجد المقاس المناسب لأننا لا نبحث إلا عن الكوت أو القميص الذي اشتراه الجار أو الصاحب. ألا تلاحظون أننا اليمنيين -أكثر من بقية الشعوب- نقلد الآخرين في مشترواتهم، أعني أن الكوت الجديد الذي سيظهر به زميل العمل في اليوم الأول سيعمل بقية زملائه على أن يكون لهم الكوت نفسه في الأيام المقبلة، دون أن يكون لذلك علاقة بالموضة، سوى أننا نعفي أنفسنا من مشقة البحث والتجديد والابتكار. بعض رجال القرى أنظف من رجال المدينة، وبعض الأحيان يكونون أقذر، والمشكلة عند الأطفال الذين يكبرون في أغلب القرى بملابس متسخة على الدوام، يقول الأهل "هُو الاّ جاهل"، يعني أن علاقته بالنظافة لم تبدأ بعد. أما الحديث عن نظافة الأسنان، وتسريح الشعر، وتقليم الأظافر، وتلميع الحذاء، واستخدام حزام البنطلون بدلاً من "العذلول القماش" فهو كلام يستدعي الضحك والبكاء معاً. هناك ما "يفطر القلب" على الدوام في هذا الوطن، ويشعر المرء أن أغلب أبنائه فقدوا الاهتمام بما يجعلهم يبدون أنيقين أو على علاقة جيدة بالذوق والمظهر الحسن. ويلاحظ اليمني أنه بمجرد خروجه من مطار صنعاء سيستقبله في المطار الآخر في أغلب بلاد الدنيا أناس بملابس وشوارع ومكاتب نظيفة، حتى عامل البلدية، والميكانيكي، وبائع الفحم، يبدون أنيقين وملابسهم كأنها خرجت للتو من المصنع "جديدة لنج"، وعندنا يبدو بعض شيوخ القبيلة أو التجار في ملابس كأنهم أكلوا وشربوا فيها شهراً كاملاً دون أن يخلعوها من على أجسادهم، وإن فعلوا وغسلوها يتركون العسكر حقهم أو مرافقيهم أوسخ منهم، وكأن رجولتهم وبأسهم لا تكتمل إلا إن بدوا كذلك، لذلك يتركون تلك الاهتمامات التافهة "للمايعين" حسب وصفهم..! لا أعتقد أني أبالغ في الموضوع، وأشعر أن مواضيع كهذه على مستوى الفرد تستحق أن يعطي لها المواطن اليمني الأهمية، فهو قبل أن يبدأ في ترتيب الأشياء من حوله، في السياسة والتنمية والاقتصاد، عليه أن يبدأ من حيث ما يرتدي ويلبس، فنحن -كما يقول علماء النفس وخبراء الشخصية- نحس بالهوان والضعة إذا كانت ملابسنا بالية، ونحس بالكرامة والكبرياء إذا كنا فى ملابس لائقة. بكلمة واحدة: "الملابس تصنع الإنسان" كما يقول شكسبير، وإن بدا متطرفاً ومبالغاً في عبارته. المثل العربي أفضل: "كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس". رأيي أن الإنسان يستطيع أن يرتدي ثياباً منسقة الألوان وأنيقة، وبسعر معقول، ويغسلها كلما اتسخت، فقط. كل ما يحتاجه الأمر قليل من الذوق، وإن كان معدوماً نستعين بصديق ولا نحرج، ولن يموت اليمني إن هو فكر باقتطاع جزء من راتب الشهر المقبل أو "تخزينة يومين" واشترى له ما يجعله يبدو أنيقاً وجذاباً أمام زوجته وأولاده أولاً، قبل الناس في الشارع والعمل، وديوان المقيل. المصدر أونلاين