من بعد استشهاد أخي محمد، في أغسطس، تعيش أمي فترات شرود متقطعة. تحدق في الأفق ليبدو طيف أخي في المدى؛ أعلى الجبل. نكتشف أننا نبتكر أنشطة جديدة لمداراة الخواطر الكسيرة. أمي تفكر بالوادي بحيوية في آونة، وآونة أخرى تفكر ببيع البقرة للنقاهة من المتاعب.. صعود دائب للحركة وهبوط خامل، ونتيجة الحزن: حيرة كبرى تعيشك في حالة تناقض لا تدري ما الذي تفعله؟ ثلاثة أيام وأمي تعصب على رأسها.. لا تفك الرباط. أصيب يوسف برصاصة في الرأس. أما أخي محمد فالرصاصة لامست قلبه. يوسف، بعمر أخي محمد، صاحبه الحميم في طريق المدرسة وفي جبهات الحرب. في مطلع هذا الأسبوع أصيب بطلقة نارية في رأسه، تبدو رصاصة قناصة ليلية موجهة بدقة.
في اليوم الثاني، بعد المغرب، سألتني أمي: مابوش أخبار عن يوسف؟ كان عنتر، صديقي في المدينة، قد اتصل بي عصر الاثنين، طمأنت أمي: لم ينزف كثير.. بخير إن شاء الله. قالت أمي، إنها شردت قبل النوم، تخيلت يوسف وأخي محمد، فجأة هبت ريح قوية فتحت درفة النافذة بعنف، فزعت أمي وهي تظن أن ذلك الصوت انفجارًا. لم تنم أمي إثر ذلك ولف رأسها الصداع، قالت أمي "امتعق داخلي". فامتعق داخلي على أمي. ***
كان يوسف وضيئًا مثل نجمة الصبح، أبيضًا مثل نتف المطر. رأيته وهو يتشوف على أخي محمد عند استشهاده، شدني في الصورة وعرفته بين الجمع المشيع. لأني حرمت من النظرة الأخيرة على أخي أعزي نفسي بالصور. شاب في ذروة اليفاعة. آخر سهرة سهرناها سويًا، كانت في أغسطس. قبل استشهاد محمد بأيام.
عاد يوسف إلى الريف من متارس المدينة، حركة دائبة تسري في شرايينه، مثل أخي محمد عند عودته، وكأي محارب شاب عاد إلى الريف: يبحثون عن بيئة تشبه البيئة التي جاؤوا منها: اليقظة في مواقع القتال للدفاع عن البلاد. تلك الليلة، كانت المنطقة منشغلة بعدة أعراس، وثمة وشوشات عن هجوم محتمل للمليشيا. ذهب يوسف إلى العرس وعاد إلى المتارس الأمامية قبالة المكان المتوقع أن يهجم منه المتمردون. صديقان في ذات الجبهة، كانا في إجازة، كانوا معنا أيضًا. في المدينة يفصل بينهم وبين المليشيا شارع. على ضفته الجنوبية شجعان الثانوية المفترض بهم إتمام المدرسة أو الذهاب إلى الجامعة، وعلى الضفة الشمالية من الشارع، المتمردون. كما عرفت، فالجبهة الشمالية شبابية خالصة، شباب من منطقتنا، آخرون من جبال الأقيوس، مكافحون من مناطق أخرى لا تعرفونهم. وهناك مجموعات تأتي وتذهب مكونة من أنحاء مختلفة من تعز، لا علاقة لهم بالذين يضوضؤون على هامش المعركة ويضجون داخل المدينة، يصدون أقوى الهجمات وبلا ظهور أمام الضوء، يستعينون بالله وينسقون فيما بينهم. بأقل جهد وأخفض تكلفة لا تخطر على بال مقارنة بالصمود المتوفر هناك. وصل بهم الحد، حتى كان المصروف الذي يتلقاه الفرد ألف ريال في الأسبوع. عرفت ذلك من أخي محمد واستغربت كيف يعيشون بلا قات وهم الذين يستعينون به على السهر كما كانوا عند مذاكرة الدروس. هنا الوطنية التي تُخلدك في أنصع صفحاتها. صرفك الغذائي في اليوم حبة روتي نحيل وشاي بارد يصل متأخرًا. لم تفتح قفلًا.. وأصحاب المنازل ينذهلون حتى انصباب الدمع عندما يعودون ويجدون الذهب في منازلهم ومقتنياتهم كما تركوها. كان أخي محمد قد قاد مجموعة من الأفراد. وكانت حالته على واتس آب: سأموت في ميادين الشرف ولا نامت أعين الجبناء.
بعد استشهاد أخي محمد، قاد يوسف أديب مجموعة هو الآخر. ونسخ حالة أخي محمد: سأموت في ميادين الشرف ولا نامت أعين الجبناء. في آخر الليل، يوم سهرنا مع يوسف. سمعت من هاتف صديق، جرح هو الآخر فيما بعد، مقطعًا صوتيًا يزيد عن نصف ساعة، لمواجهة كلامية بين الشباب وأفراد المليشيا، شاب من أبناء العدين كان مع المتمردين سابقاً، استشهد شقيقه وهو يقاتل مع المقاومة في ذات المكان: عصيفرة. فاهتدى إلى مكان شقيقه وحل محله ليقاتل الميليشيا، كان يقود المواجهة الكلامية بتمكن، وكنت أسمع صوت يوسف أديب وضحكاته. أطلق أفراد المليشيا النار من معدل شيكي، وسمعت صوت يوسف وهو يسخر من خوفهم.
عاد يوسف إلى المدينة قبل استشهاد أخي محمد. كان محظوظًا. لقد رآه. رأيته هذا الشهر. مارس. استلم راتبًا لأول مرة، وعاد إلى الريف. يوسف يُخرج والده الأستاذ، من أزمة الرواتب المتوقفة منذ أكثر من نصف سنة.. التحية العابرة كانت من فوق دراجة نارية. لم أكن أعرف أن تلك تلويحة الوداع الأخيرة. سنزوره كما فكرت، ولكن في اليوم التالي قالوا لنا بأنه عاد إلى المدينة. أذكر والده أديب، كان كلما التقيته بعد أن نسمع القصف المستمر على المدينة يبادرني: اتصلت بمحمد اخوك والعيال وقالوا انهم كسروا الهجوم. وبعد استشهاد محمد عشت ما يشبه العزلة المفتوحة، أتى إليّ ليقنعني بالخروج إلى أعياد الآخرين. خرجت بدراجة أديب. لا أعرف كيف سيخرج أديب من حزنه على ولده البكر.
لكني متأكد أنه سيفعل ذلك. لقد كان محظوظًا إذ استطاع التسلل إلى المدينة لوداع ابنه والعودة. قال لي بصوت متهدج وأنا أصافحه مواسيًا: قبرناه جمب أخوك محمد.. بينهم ثلاثة قبور. الموت خلود عندما تموت وبرأسك وطن. لم تنهب أحداً ولم تؤذ أحداً..
من عادات البلاد: إذا شارف الفتى على اليفاعة، لا بد أن تستوطن رأسه فتاة. الأنثى تمنحك المسؤولية كرجل يستحق العيش بجدارة. برأسه الجامعة وفتاة المستقبل، برأسه بلاد كبيرة من الصحراء إلى السهل.. من البحر إلى الجبل رصاصة اخترقت رأس يوسف. ومثلما كانت رصاصة في القلب.. كانت رصاصة في الرأس. * مقال خاص بالمصدر أونلاين