مساء الجمعة الموافق 21 من مايو, كان الجميع بانتظار المفاجآت التي أعلن الرئيس عنها في وقت سابق من ذلك اليوم. غادروا المخيم واتجهوا صوب الكافتيريات واللوكندات المجاورة لمخيمهم, حيث كانت الساعة حينها على بعد دقائق من أن تدق الثامنة مساءً. النشيد الوطني لوطن الثاني والعشرين من مايو يعزف, خالطه حينها صمت مريب من الحاضرين, وبدأ الرئيس خطابه المشهود الذي قال بأنه سيطوي فيه صفحات الماضي, فكان ذلك بارقة أمل لديهم في أن تطوى صفحة معاناتهم التي لم يعرهم من قبل أي اهتمام يذكر.
بدون سابق إنذار يغلق صاحب الكافتيريا التلفاز, ليقفز صادق قايد قاسم من مقعده وهو في ثورة بركانية من الغضب ليقول "ملي خلنا نشوف كلمة الرئيس والا انته انفصالي وما عجبك الكلام"!, ليضحك لحظتها كل من حوله بحسرة ألم وهم يقولون "ما عاد بوش يا قايد خراج، الرئيس قا نسي إن به دولة ثانية في دولته أسمها الجعاشن".
لم يكن يعلم مهجرو الجعاشن في مخيمهم بجامع الجامعة الجديدة بصنعاء أنهم مجرد ذكرى عابرة, انتهت في أحد الأيام بعد أن يئست المنظمات الحقوقية من أن تعطيهم حقوقهم, ومن دولة لطالما وقفت في صفوف غرمائهم, ومن إعلام تفاعل معهم لحظة وصولهم صنعاء, وتجاهلهم بعد ذلك, فتركوهم وحيدين يقارعون الجوع تارة ونار الصيف تارة, بعد أن اكتووا بخريف ممطر وشتاء قارس ببرودته.
لم يحمل خطاب الرئيس ليلة عيد الوحدة أية بادرة حل لقضيتهم والتي وصل صداها عالمياً, بل ولم يحصلوا على أي اهتمام حكومي حتى بإعطائهم الأعلام والشعارات الوطنية ليشعروا فقط أنهم ينتمون لدولة اليمن, لا لدولة الجعاشن.
الصغار والكبار جميعهم توجهوا إلى سوق العمل, حيث لم يرحمهم غلاء الأسعار, وطول الإقامة من أن يدفعوا بأطفالهم للعمل, من أجل الحصول على قوت يومهم.
قبل أيام لفت نظري عدد من أطفال المهجرين وهم يحملون على أكتافهم أكياساً بداخلها علب ماء فارغة يقومون بجمعها منذ الصباح الباكر حتى المساء, من ثم يذهبون إلى المحلات التي تقوم بشرائها منهم, ليحصلوا بعدها على ريالات بخسة ربما لا تكفي قيمة وجبة واحدة.
أطفال في مقتبل أعمارهم تحولوا إلى مأساة بعد أن ذهبوا إلى سوق العمل مبكراً من أجل كسب المال, فقد قسموا أنفسهم إلى قسمين: قسم منهم يذهب لبيع الماء والفاين في جولة الجامعة, وآخرون يذهبون لجمع العلب الفارغة.
الطفل رافد عبده مهيب الذي لا يتجاوز ال14 من عمره ذهب مبكراً لسوق العمل لينضم إلى عمالة الأطفال التي تتزايد بشكل مخيف في بلادنا بالتزامن مع الجرع الحكومية والفقر المدقع الذي يصيب البلاد, يقول رافد "الشغل مشوا عيب بدل ما احنا جالسين داخل الخيمة لا بندرس ولا شيء أحسن لنا بنشتغل بدل ما نموت جوع", يشاركه الرأي صديقه علام طه الذي قال وهو يسخر بحديثه "قا شفتنا اليوم نشتغل وندور لنا على مهره نتعلمها على شان لما نكبر وما نحصلش عمل يكون في يدنا مهرة".
أما كبار السن من المهجرين فالخوف لا يفارقهم من أي اعتداء عليهم وسط العاصمة صنعاء بتواطؤ الأمن, فهم في هذا الوقت قد قسموا أنفسهم فريقين: منهم من بقي في المخيم لحراسة الأهالي، وآخرين يلجؤون إلى بيع القات.
عجزت الدولة عن فرض هيبتها في منطقة الجعاشن, أقصد في مملكة الجعاشن! فجنود الشيخ محمد أحمد منصور لم يأبهوا لكل ذلك, فقد طردوا الأمن من المنطقة ولم يسمحوا للجنة البرلمانية من النزول لتقصي الحقائق, وقاموا بحبس الصحفيين كما حدث في وقت سابق مع موفد صحيفة "المصدر" الزميل عمر العمقي.
حياة بائسة لم يفكروا يوماً ما أنهم سيعيشونها, فبينما عجزت الدولة عن أن تنصرهم, عجزت في الوقت نفسه المنظمات الحقوقية والوسائل الإعلامية من أن تكمل الطريق معهم, لتبقى حياتهم مستمرة في عناء وتجاهل, ويبقى رجال الخير هم اليد الأولى لمد يد العون لهم ببعض الحاجيات الأساسية من مأكل ومشرب.