تمنيت خلال الأيام القليلة الماضية لو تعود الحياة بالراحل يحيى علاو ليقرأ ويسمع ويرى محبة الناس وتقديرهم له. لقد شعرت أن الكثير جداً من الذي قيل فيه أو عنه تأخر كثيراً، وكأننا لا نستطيع أن نزجي ثناء لأحد إلا بعد أن يغادرنا بالوفاة. لقد كانت الصورة التي نشرها المصدر أون لاين في اليوم التالي لوفاة علاو وهي تجمعه بحميد شحرة، مؤثرة بقدر الخبر نفسه. كانت تذكرنا بفداحة الخسارة التي تحل بنا حين يغادرنا من نحبهم، ثم لا نملك أمام رهبة الموت سوى الدعاء لهم. وكنت قد تعودت وأنا أقرأ نعي عزيز، أو وفاة صديق، أن أهرع إلى مقال قصير كتبه الأستاذ هيكل أثناء حضور ما أسماه احتفالية وداعية - وليس تأبيناً - لصديقه الراحل محمد سيد أحمد قبل ما يزيد عن أربع سنوات. لقد ترددت في الكتابة عن علاو لاعتقادي أنني لن أضيف شيئاً إلى ما قاله الزملاء، ثم شعرت بالخجل، لظني أنه من غير اللائق أن يذهب الجميع في جنازة من أحبهم ثم لا أكون معهم. وقد رأيت أن يشاركني القارئ مقال هيكل في صديقه، لأني وإن حاولت التعبير عن بعض الأفكار التي وردت على البال لحظة الوفاة أو عقب التشييع، فلن تخرج عن الإطار العام للمقال، خصوصاً وهو يصف أحد المشتغلين في الكتابة والإعلام. ثم إن فيها عزاءً جميلاً حول فكرة الموت، وسلواناً للذين لا يزالون يشعرون أن الرجل قد ذهب قبل أوانه. ولذلك سأختار بعض الذي جاء في المقالة وأسرده كما هو في السطور التالية. لست متحمساً للطريقة التي نتبعها في الاحتفال بالراحلين من أحبابنا خصوصاً إذا كان هؤلاء الراحلين من المفكرين أو الكتاب، فنحن نكتفي بأن نخلع عليهم الأوصاف وما سكتنا عنه في حضورهم، ولو أنهم سمعوه في أوانه لكان سبباً ودافعاً أكثر على العطاء، لكننا على الأقل أحياناً نقتصد في الحضور ونسرف في الغياب. إنني واحد من الذين يظنون أن الاحتفال بذهاب إنسان إلى ما وراء الحجاب ينبغي أن يجري على منوال مختلف، خصوصاً في حالة مفكر أو كاتب. ذلك أن الكاتب أو المفكر لا ينتهي حين يغيب وإنما يظل حضوره ظاهراً طالما أن له فكراً مؤثراً، وذكراً يرد مع حضور فكره، وظني في هذه النقطة هو قريب من التعبير الشائع "بأن المحاربين القدامى لا يموتون" وإنما هم مسافرون في الغروب، تختفي قسمات وجوههم من أمام نواظرنا ثم تنسحب بعد ذلك أشكالهم وتتحول مع اتساع المسافات إلى ظلال تتصاعد مع الأفق، وهناك يتركز الظل في نقطة، ثم تتحول النقطة عند الحافة إلى نجم بعيد. إننا في ثقافات الشرق نتعسف حين نتعامل مع الموت، ونتصوره نهاية للحياة، بينما هو طور من أطوارها، فهذه الحياة بدأت قبلنا وهي مستمرة بعدنا من أزل إلى أبد. وقد نصاب بالشجن والحنين حين يغيب عزيز علينا متحسبين أنها النهاية، لكن ذلك إسراف في التشاؤم لأن الغياب مختلف عن النهاية. يقول هيكل: كنت في زيارة إلى صحيفة "الديلي تليجراف" زائراً لرئيس تحريرها، ثم وجدت بعد خروجي من مكتبه أن واحداً من محررية يلاحقني مسرعاً وفي يده نص مطبوع قائلاً برقة: هذه نسخة من النعي المطبوع الخاص بكم والموجود عندنا في المواد الاحتياطية للنشر في حينه، فهل تريد أن تراجعه وتضيف عليه سابقاً أو لاحقاً شيئاً من قصة حياتك؟ ولأول وهلة بدا لي الطلب مستغرباً وربما أكثر، ومع ذلك دعتني غريزة الصحافي إلى القراءة، وفرغت منها وشردت ثوان أراجع مشاعري وهي موزعة ثم أقول لنفسي، لم لا؟ وأعدت قراءة النص ولم أجد داعياً أن أضيف شيئاً فالمعلومات صحيحة والتقييم بعدها يخص أصحابه، وعلى أية حال ظلت الواقعة أياماً ملحة عليّ داعية إلى إطالة التفكير. وقد أضيفت إليها واقعة ثانية جرت بعد سنوات وهي تكاد تكون مكملة لها وبقية، إذ حضرت احتفالية وداعية لصحافي إنجليزي كبير هو "أنتوني سامسون" أقيمت في قاعة سان مارتن الكبرى وكان برنامجها ثلاث قطع موسيقية أحب أنتوني سماعها باستمرار، وقد سكتت الموسيقا مرة لقراءة قصيدة شكسبير عن الإنسان والمقادير، ومرة ثانية لتلاوة نصوص من كتاب "أنتوني" اختارها أصدقاء له تمثل في تقدير كل واحد منهم روح كتاباته، وكان الختام كلمة من الصديق الكبير ل "أنتوني" وهو نيلسون مانديلا الذي راح بعاطفة دافئة يحكي عن بعض نوادر صديقه عندما كان رئيساً لتحرير صحيفة شهيرة بمواقفها ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وعددت ست مرات تبسمت فيها القاعة أو علا صوتها بالضحك، أثناء حديث مانديلا، وكان نبض الحياة محسوساً بوضوح مقاطعاً الصمت، وكان الاثنان معاً (النبض والصمت) مناخاً رقيقاً يحفظ للإنسانية إيقاعها جاداً وجميلاًُ في اللحظة ذاتها. وتجلى أمامي رؤى العين في الواقعة الأولى أن الموت حدث طبيعي من داخل السياق وليس من خارجه، وتبدى أمامي بالعين والأذن معاً في الواقعة الثانية أنه يصح لنا أن نضع "المفاجئ والطارئ" في إطار "الحي المستمر". ولعلي لا أصدم أحداً إذا حسبت أن الموت جزء من الحياة، بل هو تجديد لها عبر تدفق إنساني شاءت له عناية الخالق الأعظم أن يتواصل ببدء تواصل الزمن، ذلك أنه بمقدار ما لكل فرد من الناس يوم ميلاد ويوم رحيل، فقد نتذكر أن بداية كل يوم في الزمن شروق وختام كل يوم في الزمان غروب، ثم أن الغروب لا ينتهي بالظلام، بل إن ظلام ما بعد الغروب سهر في انتظار شروق جديد، وكذلك تمضي الحياة غلابا. يقول هيكل: دعوني أؤكد في النهاية أن دور أي كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعاً لمستقبل وليس كفناً في الظلام. ثم دعوني أشر إلى نجم يلمع بعيداً عن حافة الأفق أقول له معكم: تحرك حول مدارك فنحن نراك، وتكلم عبر "برنامجك" فنحن نسمعك.