حوارٌ شيق وخلاق هو ذلك الحوار الأزلي بين الإنسان والطبيعية التي تكتنفه. استلهم الإنسان أفكاره ونظّم حياته، واستمد طاقاته التي أنتج بها تبعاً للدروس النظامية المحسوسة من طبيعة الأرض التي يدب في أصقاعها ويمخر بحارها ويحلّق في أجوائها .. حتى صار به الأمر مغالياً إلى عبادة الطبيعة ومفرداتها، أو أن يرجع إليها أمر الخلق وتقدير الأقدار عبر وهم أيقونة (الصُدفة) الدارونية , ولم تكن الطبيعة إلا رتلاً من أرتال السياق الكوني المنتظم الذي أبدعه الله صنعاً وتدبيرا .. إتقان لا متناه يقود البصيرة إلى معرفة بديهية بعظمة الخالق سبحانه , وبالتالي الإفضاء إلى محبته وإثبات استحقاقه للعبودية المطلقة من كل مفردات ومكونات هذا الإبداع المثير للإعجاب . و لأن كوكب الأرض هو الموطن الحتمي للإنسان والذي يربطه به أواصر حميمية اندماجية أقل ما تكون تصويراً في هيئة الجنين وهو في رحم الأم .. هذا الكوكب الموسوم بالحياة ما فتئ يعطينا دروساً حية أجدر بنا أن لا ننساها أو نتجاهلها .. فعند الدائرة العرضية المقدرة بالقيمة "صفر" يوجد خط الاستواء الذي يقسم الكرة الأرضية إلى نصفين متساويين. "خط الاستواء" بتفسير براغماتي أو أيديولوجي هو الحد الأقصى والأدنى – معاً- من الإنصاف والتوسط والحيادية لأن أنقى وأعلى قيمة للحيادية هي "صفر" فتجاوز هذه القيمة أو مواراتها ليس إلا تفلتاً عنها واقتراباً من مفهوم "التحيز" الممقوت. خط الاستواء – ذلك المنصف- والذي يعم الخير تحت سدة سيطرته فهنالك تجد أبهى صور الحياة من أمطار غزيرة وأشجار خضيرة ومناطق لم تطأها قدم إنسان , وأطياف لا تحصى من الكائنات والمخلوقات .. بديعٌ أنت يا خط الاستواء وأستاذٌ دون أن تدري , حقيقتك الناصعة تخاطب فينا العقول وتحثها على الاقتداء بمضمونك لأن العقل البشري يجتر كل ما يراه ويسمعه ليتمخض عن فكرانيات وتصورات ويصدر أحكاماً وقرارات ويحدد له ولغيره مسارات . ثم إن كثيراً من أصحاب التوجهات الفكرية ينعتون أنفسهم بالوسطية عبر محددات يصيغونها بأنفسهم أو تحت تقييس لمعايير سماوية أو قانونية أو عرفية أو إملائية , وقد يتوافقون مع تلك المقاييس والمعايير أو يتنكرون لها لكنهم في الأخير يخلصون بقناعات راسخة لا تتزحزح عن كونهم مازالوا "وسطيين", ومعاشر المتطرفين كانوا أو الوسطيين- كمسميات- في أحايين متواترة يفتقرون لأصل فطري يظل دفين تعرجات أنفسهم وهو "الإنصاف" , وما وجد التاريخ –البتة- وسطياً تنصل عن الإنصاف وحاد عنه , بل إن كل إنسان انكفأ عنه فهو متطرف منحرف لا محالة، ولو ادعى الوسطية ونعق بها سائر دهره. ولاستكشاف ومعرفة هذا الأصل الفطري – الإنصاف – لا بد أن ندرك بأنه مدفون وبحاجة للتنقيب عنه , ولتحقيق ذلك فعلينا التجرد آنياً عن الأهواء والذوات والتعصبات و القناعات المسبقة , كما أن الوصول إليه بحاجة لانكباب على المطالعة والتعمق في كل مراحل تطور التفكير الإنساني والتوقف بتدبر عند مخرجاته بكل توجهاته من أقصى اليمين إلى ابعد نقطة في اليسار , وتتبع كل ما خلص إليه الفكر البشري عبر العصور بتراكم معارفه وتجاربه . لهذا فالباحث عن الحقيقة المحضة لابد أن يستخدم عقلية استنباطية مٌنصفة لنقل عنها "عقلية استوائية"، لأن العقل الاستوائي – التفكير - يسمح لأمطار الخلاصات الفكرية بالهطول على بساتين عقليته الغنّاء فيستقي منها ما ينتفع به، وما فاض عن نفعه تبقى سيولاً معرفية متدفقة تزين أطراف حديثه وتُعرض كقرائن في محاوراته وتحليلاته , ولهذا توجب على الإنسان أن يتصور عقله استوائياً – مُنصفاً – لأنه إن تحيز لفئة أو قادته عصبية ما أو فكرانية معينة أو قناعة مسبقة فسيجد مخرجاته قاحلة مدارها صحراوي كما هو الحال في صحارى آسيا وأفريقيا وأميركا , والأفكار الجافة ممجوجة يأباها كل جنس بشري بكل عقائدهم وتوجهاتهم . أما إن زاد العقل البشري تطرفاً وتعصباً وشططاً في طريقة تفكيره، فلن يجد نفسه إلا في مدار الجليد المتجمد قارس البرودة كما هو الحال في قطبي الكرة الأرضية المتجمدين، ويُعزى ذلك لوقوعهما على أطرافها , وماذا يٌنتظر من عقلية متصلبة متحجرة لا تستقبل، وإن استقبلت قتلت ما استقبلته، فهي لا تعطي وإن أعطت فعطاؤها جبال من الجليد لا تقبل الحياة ولا تمنحها . فحريٌ بالإنسان أن يستلهم الحكمة من الطبيعة لا أن يعبدها , وحريٌ به أن يعمل على استكشاف منجم الإنصاف في كمائنه ليعيش بعقل يمتلكه هو لا بعقل مسير يسيره غيره حتى ولو كانوا ملائكة لأن إعمال الإنسان لعقله فرض عين وليس فرض كفاية أو رخصة بحيث يٌكتفى بواحد يفكر لمجموعة من الناس. ولأني أعتقد وأؤمن أن إحكام نظام هذا الكون وديمومته تتعلق بوجود إنصاف مصدره الخالق سبحانه، ودليل ذلك أن البشر يعيشون على الأرض وبمعيتهم أسباباً من أخذ بها بلغ مراده دونما أن يتعلق ذلك بعقيدته أو ديانته وإلا ما وجدنا عُبّاد الأوثان والأوهام هم الآن من يديرون دفة العالم بما فيهم العرب والمسلمين، وذلك لأنهم تصدروا قوائم السبق العلمي وسخروا طاقاتهم لاستكشاف وفهم طبيعة الأرض واستغلال ثرواتها فتمكنوا وتحكموا في اقتصاد العالم ، وبالمقابل عندما تسخرت المادة في يد العرب نمت كروشهم على حساب عقولهم، لأنهم جعلوا جل تفكيرهم في الترف والبذخ واطفؤوا نور العقول فعموا وصموا، بل وتتبعوا رتوش مظاهر التطور عند الغرب بنفسية اللاواعي ليصمدوا جبارين عند عتبة البلادة فوق عجلة الجمود الذهني قُدُماً إلى الوراء .