يعتقدون أن حصرية الحكم بفئة مقدسة من السكان، أو حتى بطريقة حكم شمولية قسرية مزاجية بإسم الدين، هي حرية معتقد ديني لاتجب مخالفتها، وأما من يخالفها فهو كافر أو تكفيري، كما أن العنفية الجهادية المسلحة للوصول للسلطة، هي حرية تعبير ورأي لهذا المعتقد التمييزي، الذي يراه أتباعه عادلاً وجميلاً، غير مبالين بإرهابيته من ناحية، كما بإعاقته للتطور، مروراً بتفكيكه لعرى النسيج الإجتماعي بالطبع..كما يعتقدون أيضاً بأنه يجب إحترام ذلك المعتقد الاستئثاري التسلطي الرافض للمواطنة المتساوية وللديمقراطية وللبرامج السياسية والمدنية، والمفكك للوحدة الوطنية بالمقابل، مع ضرورة التفكير الدائم تجاهه بشكل إيماني راسخ فقط، مايعني الاستسلام له والرضا بالقدر الإلهي الموعود لأتباع ذلك المعتقد حتى لو فعلوا مافعلوا بالمجتمع وبالدولة. وفي هذا المسار الذي لا أسوأ منه في الإستغلال السياسي للدين، كما في إفساد الدين والسياسة معا، تتحد كائنات الخلافة والولاية كما نرى، باعتبارها كائنات التطرف لقيام الدولة المذهبية والطائفية التي كانت ومازالت ضد حلمنا الجمعي الحديث بتحقيق الدولة المدنية المنشودة، وهي الدولة الضامنة وحدها لتنزيه الدين من الكهنوت، وللتطور، كما لعدم الاستغلال السياسي للدين.
في الحقيقة كانت ومازالت الهاشمية السياسية أكثر من يستغل خلافات وصراعات اليمنيين.. تلك حقيقة مؤكدة بأكثر من ألف عام من الهاشمية السياسية في اليمن ولعنة الإمامة. ثم على مدى التاريخ، لطالما كانت الهاشمية السياسية تشب في الدول اليمنية المتعاقبة مثلما النار، لكنها سرعان ما تتحول إلى رماد من دماء متخثرة.. ذلك أن الناس لن يقبلوا إلا أن تكون مرجعية المواطنة المتساوية هي حاضنتهم لا مرجعية الأسياد والعبيد،كما لن يقبلوا برهن أحلام التطور والتقدم المستقبلية لمزاج الماضي المأزوم والرث. والثابت أنه يصعب على الهاشمية السياسية والمناطقية السياسية والمذهبية السياسية أيضا تجريف اليمن وتجاوزها كهوية وطنية خالدة وجامعة لكل اليمنيين.
وفي هذا السياق رأينا كيف أن الهاشمية السياسية لن ترحم أحداً حتى من خان الجمهورية وعمل معها. ولقد كان يجب أن يحدث كل هذا حتى ندرك مدى إحتقار واستغلال الهاشمية السياسية والوهابية لليمن..إنها مرحلة مفاصلة تاريخية مع ذراعي القرشية الاحتكارية التطرفية المأزومة سنيا وشيعيا ..تلك الآفة التي شوهت جوهر الدين وكانت المعيق الأكبر لتطور الشعوب العربية ووعيها السياسي والديني المعتدل. كذلك الشعب الذي رفض اختزال الشعب في مركزية أسر من قبيلة حاشد؛ هو نفسه الشعب الذي يرفض اختزال الشعب في مركزية أسر من قبيلة بني هاشم. وهو ذاته الشعب الذي صار أكثر إدراكاً لاحتيال الطبقات التي لا تقبل المساواة مع اليمنيين. فالشعب الذي لم يستفد من إنقلاب الحاشدية السياسية -باسم الثورة الأولى- على الهاشمية السياسية؛ هو ذاته الذي لم يستفد من إنقلاب الهاشمية السياسية على الحاشدية السياسية بالمحصلة. فالصراع طوال 55 عاما على سبيل المثال لم يكن من أجل دولة حقيقية وشعب حر ؛ وإنما من أجل شعب مرهون ودولة مختطفة. في حين أن تبادلية أدوار الحكم مابين القبيلة والمذهب -وهي تغفل بقية اليمن الزاخر بالتعدد والتنوع-لايمكنها أن تفضي إلى دولة نظام وقانون ومواطنة وعدالة وتمدن وديمقراطية وحقوق وواجبات متساوية لكل اليمنيين. بينما النتيجة الطبيعية لهذه الاحتكارات والاستئثارات والمفاسد التاريخية، هو أن غلبة منطق السلاح ومن ثم الإكراه قد عرته تماما غلبة منطق السلمية ومن ثم المقاومة أيضاً.
لكن هل من عقلاء وحكماء يصونون ما تبقى من إحساس وطني جامع، أم أن المستقبل سيبقى رهن اللامبالاة والانتقامية فقط؟ بمعنى.. هل من تنازلات صائبة؛ أم أن التشبث بأخطاء عدم المراجعات هو ماسيستمر؟. إن اللحظة مفصلية .. والجراحات قد طالت الجميع بلا إستثناء؛ فهل نتخذها فرصة وطنية مثالية للتعقلن ولتفعيل المسؤولية الكبرى، أم أن أصحاب المصالح الخاصة لن يستطيعوا التخلص من بشاعة انانيتهم كما سيمكنون البشاعة المضادة من التفاقم وهذا هو الأسوأ ؟ بالتأكيد لن ينسى التاريخ من فرض الاحتجاجات و المعارك على الشعب ..والحاصل أن تشبث قوى الهيمنة والنفوذ التقليدية ببروتوكولاتها هو مايقود بالضرورة إلى الرضوخ التام لها -وهذا هو المحال بعينه بعد كثير من المظالم والتداعيات- أو العمل على تعديل موازين القوى . فتعالوا إلى لعبة السياسة خير للمجتمع وللدولة من لعبة العصبيات. تعالوا إلى سلام ضامن يخفف من معاناة الشعب، بدلاً من تنمية امتيازات أمراء الحروب وعصابات اللادولة وتجار الدين والخراب الذين اثخنوا الشعب بالقمع والفقر والقهر والعصبيات. وبما أن نقطة ضعف اليمنيين تكمن في نسيان يمنيتهم، وتشتتهم المناطقي والقبلي، مع عدم الارتكاز على الديمقراطية والمواطنة المتساوية، تحقيقاً للدولة الجمهورية المدنية التي ستنهي جائحة ممارسة الطغيان ونيل الإمتيازات والمصالح غير المشروعة باسم القبيلة والمنطقة والمذهب: ستظل نقطة قوة الهاشمية السياسية، تكمن في استذكار ولاية البطنين، والارتكاز التمييزي على عدم الانصهار في الهوية اليمنية والمصالح الجمهورية العليا، من خلال السعي العصبوي الدؤوب لاستغلال العرقية و المذهب، تأكيداً لوهم الامتيازات الإمامية، وممارسة جائحة الطغيان بإسمها كحق أصيل وطبيعي.
على أن كل تلك التشوهات والانحرافات المكرسة، مازالت تؤجج الصراعات الناشبة من قبل الجميع ضد الجميع، بكل ماتتضمنه من استقواءات واقصاءات، بينما ستظل التعبير الأفظع لكل آثار تقويض المشروع الوطني الجامع ، مالم نصل يوما إلى نقطة الاقتناعات الناضجة، بأهمية تحقيق حلول جذرية، عبر إنجاز كافة المراجعات والتصويبات والاعترافات بالأخطاء والمصالحات الشاملة، التي ستمكننا جميعا من إعادة البناء المسؤول على أسس وطنية عادلة، في دولة سلام يمنية، ذات مفاهيم نهضوية حديثة، لاتستسيغ وعي الغلبة والاستبداد والهمجية أو تبرره إطلاقاً، بقدر ما تصون الحقوق والحريات وتكافؤ الفرص بشكل حضاري ومؤسساتي وقانوني سوي وهي وحدها من ستكون جالبة للشرف والاعتزاز، لأنها هي فقط من ستحقق سعادتنا الوطنية المفقودة.
وأما الموجع اليوم فليست هي إمامة ماقبل خمسين سنة والتي كانت تحكم بأدوات الإمامة..بل الموجع بحق هي إمامة اليوم التي صارت تحكم بأدوات الجمهورية. وبالمقابل فإنه بسبب تعقد الظواهر الإجتماعية؛ والتفكير الخامل للنخب السياسية، والتجريف الحضاري، ومنظومة اللا إنتاج، والإفساد المنغمس، والسلفية الثقافية بشقيها السني والشيعي: ستظل اليمن تدور بين المشاكل التي تتطلب الحلول؛ و الحلول التي تتحول إلى مشاكل مضاعفة.. بين الاستغلال والإستبداد الطبقي للجمهورية وللوحدة بنموذجي الشيخ والسيد، وحالة الديمقراطية الخادعة والمزيفة والمفرغة المضامين من الداخل.
وطوال أكثر من خمسين عاماً لا شيء تجلى أشد من مشروع القبيلة ومشروع الوهابية ومشروع الإمامة، كمشاريع تخلف وبدائية وهمجية، احتلت مكاناً مركزياً في واقعنا اليمني العجيب فيما اضطلعت بمحو الدولة والمواطنة والتمدن بكل همة وصلف وجدارة. لكن إرث القبيلة السيئ في الشمال مثلاً سببه تركة وعي الأئمة الأسوأ في الحكم.
لذلك كله يجب أن يكون تمدين القبيلة مشروعنا القومي اليمني. ومن هنا فإن الهاشمييين الذين مع الإمامة لم يندمجوا في الهوية الوطنية اليمنية، لأن القبيلة استمرت تقبل بأن تكون قفازات"عكفية" لمذهب يبحث عن حكم للبطنين ولذلك استمرت المسيدة في رؤوسهم كارهين أن يكونوا مواطنين اسوياء، فيما اغراهم أن الدولة لم تصل للقبيلة لتحدث فارقاً في الوعي بين مرحلتي الإمامة و الجمهورية. وبين مرحلتي ماقبل ثورة 11 فبراير ومابعدها أيضاً حتى اللحظة. * مقال خاص بالمصدر أونلاين