في كل مناسبة مميزة على روزنامة علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي, يلوذان إلى حشد أنصارهما للاستمتاع بالعروض البشرية مثلما يفعل كل الزعماء الفاشيين في التاريخ, وللادعاء بأنهما يقرران باسم تلك الحشود التي لم يتخذا قراراً واحداً باسمها أو لمصلحتها. ولصالح والحوثي عقدتهما مع الجماهير التي يريدان تصحيحها في كل مرة يجلبان الحشد, فضلاً عن أنهما مثل كل القادة الفاشيين, يتلذذان برؤية الحشود المتراصة كما تبدو بين فترة وأخرى في ميدان السبعين بصنعاء لأن الصورة تنعكس في بصيرة القائد الفاشي مختلفة فلا يرى سوى ذاته في تلك الألوف المحشورة طوعاً وكرهاً, والمشطوبة بممحاة سيكولوجية داخلية من الصورة المرتدة إلى بصيرته. فعلي صالح الذي دأب طوال سنواته الحاكمة على ترهيب المشهد السياسي والوطني وابتزازهما باسم الحشود التي كان يكني عنها بالحديث عن "الشعب" الذي قال كلمته في صناديق الاقتراع, جرع من تلك الكأس جرعة ناقعة, أطاحته من كرسيه بعدما اندفعت الجماهير إلى الساحات العامة في 11 فبراير 2011 فيما كانت عدته مختلفة تحسباً لخطر مختلف. وللرجل أن يحتقن بالنقمة والاستلاب بقية حياته كلما استقر لديه أن قد هزمته صيحة عابرة للمنطقة (الشعب يريد إسقاط النظام) مع أيد عارية وصدور عزلاء فحسب في حين كانت معسكراته تغص بالعتاد القاتل والجند المجندين لمنع هذه اللحظة. لا بد أن تنحية صالح من السلطة بفعل 11 فبراير قد زرع في نفسه إحساساً بأعظم وأفدح استلاب في حياته وشكل إهانة للطريقة التي يفكر بها متسلط مغرور يرى في الانحناء لإرادة الشعوب ضعفاً وهزيمة. لذا, هو بهذه الحرب الطاحنة التي أضرمها مع عبدالملك الحوثي شريكه في لعق دم الشعب وتدمير مستقبله, يعيد الاعتبار لذاته المريضة أولاً بمحو ما يعتقدها إهانة وهزيمة شعبية قبل أن يشبع بها جشعه في التسلط وتأبيد سيطرته على القرار. وإن بالإيهام الذاتي, يجلب صالح حشده ليمحو أثر ما فعلت به الجماهير التي ظنها دوماً مجرد "حشد" مسخر له ما دام حاكماً, أو ليبدل ذلك الأثر فيلفق لنفسه كلما ساق البشر للعرض بأنه يستطيع أيضاً أن يسقط خصومه السياسيين بالجماهير ويشن بها الحرب عليهم ومن ثمً فها هو يثأر منهم بالأسلوب والمفاعيل ذاتها وفق ما تزينه له مواساته الخاصة التي اخترعها وزيفها لنفسه, بالطبع. أما عبدالملك الحوثي زعيم الجماعة الحوثية فهو أدعى للإحساس بالنقص بعدما استولت جماعته على السلطة بالعنف بعد تحالفها مع علي صالح, إذ موقعه على رأس السلطة القهرية يشعره بالحاجة إلى أن تقترن به صفة القائد الوطني فيما هو في الواقع زعيم طائفي, لم يستطع حتى والمال العام والقوة في يديه حشد الجماهير على أرضية وطنية مرة واحدة. ففي كل المناسبات التي حشد فيها الناس, كان سواد حشده إما طائفياً أو مناطقياً عصبوياً إلى جانب قلة من المتكسبين الذين يدورون حيثما تدور السلطة ويجثون على كل الموائد السمينة. وأي قائد في مقام الحوثي يتمنى لو أن طفرة جماعته قد تحققت بالجماهير وبطرق عصرية سلمية, لكن الحقيقة تصفعه كلما نقًب في تاريخ مسيرته التي تمطت من مغارة في صعدة حتى غمست قدميها في مياه البحر العربي لعله يجد حدثاً صنعه بالجماهير الواعية الراضية فلا يجد غير عيون من الدم الذي استحله تنبجس في وجهه وتذكره بحقيقة أنه قاتل طائفي لا قائد للجماهير في القرن الحادي والعشرين. ذلك أن الطفرة الغريبة التي نقلت جماعته من المغارات وقمم المرتفعات الوعرة إلى القصر الرئاسي قد تحققت بالدم والمؤامرات والحط من كل شعاراتها السابقة ولم يكن وراءها شعبية واعية وطوعية. حتى المظاهرات التي نظمتها الجماعة الحوثية خلال أغسطس وسبتمبر 2014 للاحتجاج على قرار حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي برفع الدعم عن المحروقات لم تكن سوى لافتة أمامية مستعارة لحركة دؤوبة تنشط في الخلف, حيث محيط العاصمة صنعاء وتنشط في حشد المقاتلين وبناء التحصينات وشق الخنادق لتطويق العاصمة وإسقاطها الذي تحقق في 21 سبتمبر من العام نفسه. وعبدالملك الحوثي الذي يتفوه بمتوسط ستة آلاف كلمة في كل خطاب يلقيه لإرواء ظمئه إلى صفة الزعيم الوطني الذي يتحدث إلى شعبه ما زال عاجزاً عن اكتساب نبرة الخطابة السياسية ومفرداتها. وفي كل مرة يقف أمام المايكرفون أملاً في أن تتلبسه حالة الخطيب السياسي, تجري على لسانه بتلقائية نبرة طلبة المدارس الدينية المتدربين على محاكاة شيوخ الخطابة الدينية وتنطلق لسانه بالمفردات المستلهمة من كراسات أخيه حسين ومتون المؤلفات الدينية. أكثر من ذلك أن الرجل يضرب حول نفسه سياجاً عازلاً عن الناس بمن فيهم أتباعه كي يخترع لذاته قداسة واستثنائية تغذيان خرافة الموجه الروحي ذي الاصطفاء الإلهي التي يريد الحوثي تجاوزها إلى نسخة الفاشي الحديثة, غير أن صلادة ذهنيته وانشداده إلى طريقة "الأئمة" البدائية في اختراع هذه الاستثنائية يحرمانه حتى من متطلبات القائد الفاشي في نسخه الحديثة التي شاعت في العقود الأولى من القرن العشرين. ولكي يبلغ الحوثي, في أحلامه فحسب منزلة القائد المحفوف بحب الجماهير الراضية -وصفة الفاشي الحديث في الحقيقة- لا يجد أفضل من أن يحشد الأتباع وسائر من لا حيلة لهم لملء الساحات في كل المناسبات الخاصة بجماعته ثم تلاوة الخطابات المكتوبة له مضيفاً إليها حشداً من الكلمات الارتجالية المكررة. لكن كل ما حشده صالح والحوثي منذ امتلاك ثورتهما المضادة للسيادة السياسية في 2014 لم يبدل من حقيقتهما ولن يشفي عقدتهما مع مفهوم الجماهير في عصور الديمقراطية, ولن يضفي شرعية على سلطتهما, الأمر الذي سنرى معه مزيداً من الحشود وسنسمع مزيداً من الخطابات. فشرعية سلطةٍ ما تعني في أكثر تعريفاتها شهرةً وبساطةً رضا الناس بها. وإذا كان اليمنيون قد أكدوا رفضهم لحكم صالح والحوثي بأبلغ طريقة ممكنة حين حملوا السلاح وقاوموا طغيان هذين المتسلطين في أصقاع شتى من البلاد فلن يغنيهما جلب الكادحين المسحوقين وموظفي الأجهزة الحكومية والأنصار المتعصبين للاستعراض باستثناء أنه يمتن عرى الطائفية السياسية وباقي العصبيات التي ألفت بين قلبيهما بعد عداء مرير. ولو أن هذين الحليفين يملكان الحنكة السياسية التي يريدان ارتداء مظهر زائف لها باستعراض الحشود مراراً لأقنعا الملايين الرافضين لسلطتهما بقبولها, فضلاً عن إقناع المقاومين الذين تنتشر متارسهم في خارطة البلاد كلها بإلقاء السلاح. أما الهروب إلى المظهر الجماهيري الملفق لتزييف الواقع فلم يعد خادعاً لأي مستبصر منذ ساقت الأنظمة الفاشية أنصارها ومقهوريها إلى الساحات العامة قبل أن تقدمهم وقوداً لحروبها الإجرامية أو تسحق آدميتهم تحت وحشية أطماعها وسادية طموحاتها. وبوصفهما أميري حرب متمرسين, يدرك صالح والحوثي أن ما من خطوة أثمن لهما في وقت الحرب التي أضرما نارها من تحقيق مكاسب عسكرية بدلاً من استعراض الحشود التي محلها بيئة الانتخابات, فالحرب تفرض مكاسبها وخسائرها على المتحاربين وفقاً لأدائهم في الجبهات دون أن تستشير حشداً هنا وهناك في توزيع مقادير الربح والخسارة. وإذا كان صالح قد أرهب السياسة ب"الحشد" خلال عقود حكمه وكذا أرهب الحوثي السياسة, بالسلاح من 2011 حتى 2014 فمن السخرية أنهما يجربان ترهيب مناخ الحرب بذينك الحشد والسلاح.