ليست فقط باقة إنعدام المعرفة والثقة وإحترام الآخر وسوء الفهم والنوايا وإستجرار الماضي بحمولته السلبية والصورالنمطية والأحكام المُسبقة التي نرسمها ونُمارسها تجاه بعضنا البعض السبب الوحيد في قائمة باقات فشلنا في إرساء قواعد الأمن والسلم والإندماج وإحداث التطورالنوعي والنهضة الإجتماعية والسياسية والعلمية والتنموية والفكرية المرجُوة .. لكنها الباقة الأكثر سلبية التي تَحُول دون تحقيق الوحدة الوطنية وحدوث الإندماج النفسي للمُجتمع وإستيعاب فئاته وإتجاهاته المُتنوعة والمُتعددة ، وتُصعِب من إدارة أزماتنا وعلاقاتنا وشئون حياتنا بشكل حضاري وبصورة واقعية ومتوازنة ؟! . كما أن المُشكلة الحقيقية في عناصر هذه الباقة أنها ليست طارئة على مُجتمعنا ، كما أنها ليست مُمارسات وسُلُوكيات عارضة تزول بزوال الحدث والفعل والظرف الذي إستدعاها . ولكنها عناصر ومُمارسات وسُلُوكيات تجذرت فينا ، وأصبحت بفعل الزمن والتنشئة والتكرار والإنتشار والعادةجُزءا من شخصيتنا المُجتمعية وأحد ملامح هويتنا وثقافة بيئتنا الإجتماعية ، بحيث أضحت ألغاما تنفجر في وجه كل مُحاولات ونوايا وجهود التحديث والتطوير وتحقيق العدالة الإجتماعية والحياة المدنية في واقعنا وبيئتنا العربية . للأسف ! .. أننا في المجتمع العربي لا نتورع وبشدة عن تفجير تلك الألغام في إدارة أزماتنا الداخلية أو عند تحديد ورسم علاقات فئات المُجتمع ببعضه البعض ، بخصوص الوصول إلى السلطة والموارد الإقتصادية للبلاد والمُجتمع ككل . بل إن ثالثة الأثافي ، أننا لا نُريد الإعتراف أن تلك الألغام المُشبَعة بسيكولوجيا المُجتمع والمَحشُوة بعقله الباطن ، وحدها الكفيلة ، حتى أكثر من العدو الخارجي على تدمير مُكتسباته المُختلفة . كما أنها قيود متينة في إتجاه حراك المُجتمع نحو تقدمه النوعي في إحداث التغيير الحقيقي ، الذي يُفترض له أن يتجسد في تأسيس دعائم وبناء دولة المؤسسات والقانون وتحقيق الحريات والمُواطنة المُتساوية والعدالة الإجتماعية المنشودة . لقد إستطاعت كثير من الشعوب والمُجتمعات – أميركا على سبيل المثال - أن تتجاوز تنوعها الديني والثقافي والعرقي والقومي ، جاعلة من ذلك التنوع عُنصر إثراء وتخصيب لبناء قُدراتها المُتفردة ، والإتجاه بهوية وطنية واحدة في فرض نفسها ووجودها وهيمنتها على العالم . ليس هذا فحسب ، بل جعلت من نفسها ، على صعيد نصرالحُريات والحقوق الأساسية للإنسان ، قِبلةً ومِحراباً لشعوب الأرض قاطبة ، كما سطر ذلك أحد الآباء المؤسسين لأميركا ، وهو جورج واشنطن في العام ( 1783 م ) قائلا : " إن صدر أميركا مفتوح لإستقبال المظلُومين والمُضطهدين من كافة الأمم والديانات ، والذين سوف نُرحب بمُشاركتهم كافة حقوقنا وإمتيازاتنا . وقد يكونون مُحمديين ( مُسلمين ) أو يهودا أو مسيحيين من أي طائفة ، وربما يكونون مُلحدين " . بينما فشلنا نحن في البيئة والمُجتمع العربي أن نستوعب تنوعنا الموروث تاريخيا !! . ومنعنا أفراد وفئات المُجتمع المُختلفة من حُرية إختيار الهوية ، عن تلك الموجودين تاريخيا ضمنها ، لا سيما دينيا . وإنما الإختيار المُتاح - وربما الوحيد – هو التغيير نحو هوية الفئة والجماعة الدينية والإجتماعية والسياسية المُهيمنة في المجتمع ؟! . ظنا أن السماح بذاك التغيير والتحول والتنوع سيُفقدُنا هويتنا الثقافية والدينية والإجتماعية وعقيدتنا ونظريتنا السياسية ومكانة طوائفنا الموروثة ، ويُعيق تطورنا وتنميتنا ، ويُهدد أمننا القومي ؟! . مُتناسين أننا تاريخيا وفي هويتنا الدينية قد عبدنا وعبر سلسلة آباءنا وأجدادنا ، الشمس والقمر والأوثان والأصنام وشيدنا لها المعابد والمذابح وقدمنا لها النذور والهدايا ، ثم صرنا يهودا وبعد ذلك نصارى ، وفي الأخير صار كثيرون مسلمين ؟! . إن إنتهاك مبادئ الحق والعدالة والحقوق الإنسانية والإجتماعية الأساسية ، وغياب المُواطنة المُتساوية ، والتطبيق الإنتقائي والصُوري للقانون والإلتفاف والتمرُد عليه ، وتقنين الفوارق والإمتيازات بين الفئات الإجتماعية المُختلفة ، ومُمارسة القمع والإضطهاد ، وإحتكار الحقيقة ، وتأليه الفرد الحاكم ، وظُلم وإحتقار الإنسان أخيه الإنسان ، ومُصادرة حقه في الإختيار ، وديكتاتورية الفرد والجماعة والطائفة ، ونسيان وحدة الدم و الأرض والتاريخ والمصيرالواحد والعيش المُشترك ، هي من تُسبب ذلك التدهور وتُسهم في إستمراره ؟؟! . إننا من أكثر الشعوب التي لا تستفيد إيجابا من التاريخ والعناصر المُشتركة بين فئاتها الإجتماعية - التي تصل حد التماثل في أحيان عديدة - وذلك في فرض هويتها الوطنية والقومية وصُنع مكانتها العالمية في العصر الحديث . كما أننا من المُجتمعات التي تميل إلى تضخيم هويات فئاتها الإجتماعية الفرعية وتكريس وإفتعال الصراع ومُمارسة أنواع القمع والإضطهاد بشأنها ، مُتجاهلين الكثير من الأصول والقواسم والمصالح والصيُرورة المُشتركة ؟!. بل إن من الألغام الثقافية التي نُجيد تفجيرها في بيئتنا وبشكل تدميري ، يبرز عندما نتصل بالماضي ونستخدمه لنُبرر مُمارسات الحاضر السلبية والتمهيد لعدم النية في التخلُص منها في المستقبل . جاعلين من إستخدامه والإتصال به قيداً عنيفا ومتينا نحو تقدُمنا وتطورنا وتغيُرنا . في حين يُفترض أن يكون إتصالنا بالماضي وإستخدامه ، لفهم الحاضر، ومن أجل صُنع المستقبل الجديد والأفضل ؟! . إن من تلك الالغام التي تُهدد دوما إستقرار مُجتمعنا ، العلاقة العُنصرية التي تصل حد وصمة العار في جبين المُجتمع ونُخبه ، فيما يختص بالتباين والإمتيازات بين فئات المجتمع المُتعددة ، والتي تُعد على درجة كبيرة غير مُنتظمة ، فيما يتعلق بمصادر الوصول إلى القوة السياسية والموارد الإقتصادية . إننا في المُجتمع والبيئة العربية نتفنن في تكريس التقسيم بين فئات المجتمع ، ومُمارسة الإقصاء حد إذكاء الشعور السلبي لدى بعض الفئات ، أنه ليس لها وتد ومكان في النسق الإجتماعي كالفئات الأخرى ! . مما يعمل على تحويل ذلك الشعور السلبي بإنعدام القوة والمكانة ، إلى تمرد وصراع إجتماعي وسياسي وديني وعرقي وطائفي ، كتعبير رمزي عن الشعور بالإقصاء و التهميش ورفض سياسة الدوس بالأقدام !!. إن المُجتمعات العربية لم تفهم ماذا يعني بناء الدولة والمُجتمع بصورة صحيحة ؟ . وعندما تشرع في وضع مشروع بناء الدولة والمجتمع ، فإنها تبدأ في تقسيم المجتمع وبغرض الوصول إلى السلطة والثروة والإستئثار بهما ، إلى ( نحن & هم ) ، وبالتالي تبدأ في رسم حدود للفئات المُجتمعية وتكريسها ، مُتناسية أن توزيع السلطة والثروة بهذه الطريقة ، يُكرس زراعة ألغام ، لا تلبث أن تنفجر في وجه المُجتمع وإستقراره وتطوره المنشُود مُستقبلاً ؟! . كما أن سعي الفئة والجماعة المُهيمنة داخل المجتمع ، لإسقاط فكرها وفرضه ضمن الأُطُر الدستورية والقانونية ، مُتجاهلة ومُتجاوزة التوافق مع الفئات ألأخرى من جهة ، ودون إستيعاب التطور والواقع الذي يشهده العالم بإعتبار صيرورته قرية كونية ، وعدم مُراعاة لغة العصر والحقوق والحريات الأساسية والطبيعية للإنسان من جهة ثانية ، هو من يدوس دون وعي وإنتباه و إدراك أو مع سبق الإصرار والترصُد بأقدامه على صاعق لغم شديد الإنفجار ؟! . من الأسئلة المُلحة : لماذا فشلنا وبالرغم من الهجرات الريفية نحو المدن الحضرية في بيئتنا العربية في خلق البيئة المدنية التي معها يتحقق التغيير الثقافي والإجتماعي بسرعة عالية ؟! . يُمكننا القول أنه في الغالب ، يحاول الناس الذين يُهاجرون نحو المدن أن يحافظوا على قراباتهم القديمة ومُمارساتهم الثقافية وشبكاتهم الإجتماعية في النسيج الحضري الجديد . وهذا ما يفسر ظُهور الأحياء العرقية والقبلية والطائفية ونشوء التجمعات السُكانية والسياسية ذات البُعد العرقي والقبلي والطائفي في بعض الأوضاع الحضرية . كما أن عودة الفرد إلى منبعه الأصلي وجذوره الريفية ومسقط رأسه عند قراره الزواج وإختيار شريكه حياته من جهة .. وبحثه وحصوله على فرصة العمل ، واللجوء لتحقيق أمنه ، من خلال شبكته وهويته الإجتماعية الأصلية المُتمثلة في الأسرة والقبيلة والطائفة ، بسبب فقدان الدولة لسيادة النظام والقانون ، وعدم تحقيق وتجسيد مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية وتكافؤ الفُرص من جهة ثانية ، تُعدُ في مجموعها ألغاما تعمل على إضعاف وإبطاء عمل البيئة المدنية والأوضاع الحضرية ، من أداء دورها في تحقيق التقدم والتغيير الثقافي والإجتماعي بإتجاه المُجتمع المدني المأمول . من الألغام التي تُهدد وتُعيق الوحدة النفسية والإندماجية للمُجتمع والتي لازال المُجتمع يُمارسها ، غياب المعرفة الثقافية للفئات بالقوالب وصُور الحياة الخاصة بالفئات الأخرى . وإذا حصلت معرفة بقوالب الآخرين ، فإننا للأسف نستخدمها بشكل سلبي في التعامل والعلاقة معهم ، بحيث يظهر معها التمييز والعُنصرية تجاه بعض الفئات ، على إعتبار أنهم ذوو طباع وأطوار غريبة !. فإستخدام الفئة المُهيمنة داخل المُجتمع لطباعها وعاداتها وصور حياتها اليومية كصورة نمطية ، يُقاس عليها قبُول الآخرين وحُصُولهم على حُقُوقهم الطبيعية والأساسية ، وكتبرير للحصول على الإمتيازات وتكريس الإختلافات والفوارق بين فئات المجتمع ، يُعدُ من أبرز عوامل التمزيق للوحدة النفسية والنسيج الإجتماعي للمجتمع . فالإستخدام السلبي للصور والقوالب النمطية للفئات الإجتماعية تجاه بعضها البعض في إصدار الأحكام المُسبقة ، يُعدُ لغَماً كبيرا في وجه تحقيق السلم الأهلي والأمن والإستقرارالإجتماعي . ولأن هذه الصُور والقوالب من الموروث التاريخي الذي يُميز فئات المجتمع عن بعضها البعض ويصعب التخلُص منها على المدى القريب ، فإنه بالإمكان إستخدامها في فهم المُجتمع ، وليس للإستمرار في التكريس السلبي للتراتبية الإجتماعية الموجودة أو تفريخ وخلق تراتبية جديدة داخل المجتمع ، وإتخاذ المواقف و إصدار الأحكام المُسبقة تجاه بعض مكوناته . للأسف الشديد ! .. أن كثيرا من المُجتمعات ذات الهويات الدينية والثقافية والعرقية والقومية المُتعددة ، إستطاعت أن تتجاوز هذا التعدُد وتتعايش معه وتنمو وتتطور . بينما تظل المُجتمعات العربية مشغُولة بتكريس الهويات التاريخية بداخلها بشكل سلبي ، ومُمارسة شتى أنواع القمع ُوالإضطهاد والظُلم على أساسها ! . وهذه الوضعية الخاطئة ، لن تُمكن المُجتمع والبيئة العربية ، أن تكون يوما ما في المستقبل قِبلةً ووجهة للمظلُومين والمُضطهدين من كافة الأمم والديانات ، بل أمة مُصدرة لهم ؟!! . لقد حرصت التعاليم الدينية والإنسانية على تذكير الإنسان بوحدة جنسه وأصله البشري ووحدة المعبُود ليتجاوز تعدُد أعراقه وقومياته ولُغاته وعقائده وألوانه المُختلفة ، مُحققا التعايش المُشترك والسلام العالمي المنشُود للإنسانية . بل ولشدة ما شهدته المُكونات الحضارية والدينية والسياسية والإجتماعية لمنطقة الشرق الأوسط وشعوبها من توتر وصراع عبر التاريخ ، ولأهمية تأثير دورها الإيجابي و السلبي على تحقيق الإستقرار والسلام العالمي المنشُود ، وبسبب إستفحال واقع ومُعطيات التوتر والصراع في هذه المنطقة الحيوية من العالم في التاريخ القديم والحديث ، تُشير تعاليم دينية إلى نبوءة في سفر ( إشعياء : 19 ) من العهد القديم ، بأنه سيأتي اليوم الذي تنفتح فيه السكك المُغلقة ، ويتم فيه تجاوز كل عناصر التمايُز والخِلاف ، ويجلس فيه أبناء شعوب هذه المنطقة ، كأولاد ينحدرون من إبراهيم ، ويعبُدون معا الله الرَبُ الإله الواحد له المجد في قداسة كبركة للعالم في وسط الأرض . وليحمي الله اليمن وأهله .. آمين