برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وعيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، تم التوقيع على اتفاق الرياض في يوم الثلاثاء الماضي 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 بين ممثل الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي. وقد سبقت مراسم توقيع الاتفاق اجتماعات ولقاءات وتأجيل موعد التوقيع عدة مرات، أظهرت من خلاله الدبلوماسية السعودية الحنكة والخبرة في نزع فتيل الألغام التي أرادها بعضٌ من المعترضين على جوهر الاتفاق بين الطرفين الحكومي والمجلس الانتقالي، وذلك بفضل تجارب المملكة في كيفية التعاطي مع تعقيدات الأزمات اليمنية منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز، الذي أشار إليه ولي العهد السعودي في مستهل كلمته الترحيبية بالحضور، أن المملكة كانت دوماً مع اليمن، حريصة على استقراره، ومشيراً أيضاً في هذا الصدد إلى توجيهات الملك سلمان للمسؤولين في المملكة «لبذل كل الجهود من أجل رأب الصدع بين الأشقاء في اليمن»، ومن المؤكد أن من يتناول كتابة ورصد المراحل التي سبقت يوم 5 نوفمبر سيلقى مادة دسمة من مظاهر «الصدع» بين أطراف الأزمة اليمنية في إطار «الشرعية» وعلى مستوى أتباع ومعارضي المجلس الانتقالي. ما كان في الماضي يقتصر على الجنوبيين في انتقاد شريكهم الشمالي في الوحدة اليمنية، في طريقة تعامل السلطة مع الجنوب، ليس كشريك لهم في قيام الوحدة، وإنما كفرع عاد إلى الأصل اليمني، وفق تعبير الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. تلك المآخذ والانتقادات ظهرت الآن صراحة على لسان شخصيات حكومية في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، مثل وزير الثقافة السابق خالد الرويشان، الذي كثف مؤخراً تغريداته في «تويتر»، والتي قال في إحداها: «ليس عيباً أن نخاف على الجنوب، وعلى ثرواته، ليس عيباً أن نخاف من الانفصال! فأكثر من 6 ملايين يمني يعملون بالجنوب، يعني ما يساوي عدد سكان الجنوب، كيف سيكون مصيرهم؟ الغاز بشبوة، والبترول والذهب بحضرموت، وأهم الموانئ العالمية والثروة السمكية بالجنوب، و90 في المائة من إيرادات الدولة من الجنوب!». وفي تغريدة أخرى، قال الرويشان: «ثروات الجنوب ملك لكل اليمنيين! نحن أول من طلب من الأحمر ترك آبار النفط التي كانت تورد إلى حسابه، وطلبنا من الزنداني ترك شركة الأسماك التي كانت تورد إلى حسابه، وطلبنا من هاشم الأحمر ترك إيرادات الوديعة، فلماذا يعاقب الجميع؟». تساؤلات جاءت متأخرة، بينما كان الوزير الرويشان في حكومة صالح، كان الرئيس السابق يصرح أمام ضيوفه من الشخصيات الغربية، كما حدث أثناء زيارته إلى ألمانيا الاتحادية، أمام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بأن اليمن كما عملت ألمانيا الغربية في وحدتها مع ألمانيا الشرقية ضخّ أموالاً طائلة من أجل النهوض باليمن الجنوبي ورفع مستواه المعيشي! بالطبع، حينها لم ينبس الوزير الرويشان بكلمة واحدة، فقط الآن رآها مناسبة قبل التوقيع على اتفاق الرياض بإثارة تلك النقاط، وكأن الجنوب في طريقه إلى الانفصال غداً. وفي إطار السلطة الشرعية، رأى أحد أطرافها أن على المجلس الانتقالي قبل الجلوس معه والتوقيع على الاتفاق، أن يقوم أولاً بتصحيح الأوضاع، كما كانت قبل أحداث أغسطس (آب) الماضي، بانسحاب قواته من المعسكرات الحكومية التي استولت عليها، وتفعيل مؤسسات الدولة كافة في مختلف المحافظات المحررة، ومن ضمنها أحقية مجلس النواب عقد جلساته في عدن العاصمة المؤقتة، التي كان محظوراً عليه انعقاده فيها، ما اضطره في أول افتتاح جلساته إلى أن تتم في مدينة سيئون في محافظة حضرموت. واستعداداً لمؤتمر الرياض، عقد الرئيس هادي اجتماعاً مع هيئة مستشاريه في 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لمناقشة مسودة الاتفاق والمحادثات المكثفة التي تمت مع الجانب السعودي في هذا الصدد. وقدّم نائب رئيس الجمهورية علي محسن الأحمر في الاجتماع تقريره حول لقاءاته مع الأشقاء في السعودية، والتي أسفرت عن مسودة الاتفاق، وأكدت حسب ما نشرته وكالة «سبأ» الرسمية توافقهم على إنهاء التمرد وعودة الدولة ومؤسساتها ودعم الشرعية، بقيادة الرئيس هادي، والتأكيد على المرجعيات الثلاث، المتمثلة بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني والقرارات الأممية ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 2216 ومقررات مؤتمر الرياض. هذا ما جرى وفق النسخة الرسمية للاجتماع، بينما وسائل التواصل الاجتماعي أعطت صورة مغايرة لما حدث في الاجتماع، الذي وصفته أنه كان اجتماعاً صاخباً أرادت فيه بعض الشخصيات تغيير بعض ما جاء في المسودة التي وقّعت بأحرفها الأولى من قبل الطرفين؛ الشرعية والمجلس الانتقالي. وعقد الرئيس هادي اجتماعاً آخر كجبر خاطر مع 9 قيادات من مكونات جنوبية أخرى تربطها علاقات ودية بالشرعية، عشية اجتماع الرياض، وذلك في يوم 4 نوفمبر، ليؤكد أمامهم أهمية القضية الجنوبية، باعتبارها جوهر السلام والاستقرار في اليمن، مشيداً بدورهم ونضالهم وتضحياتهم ومواقفهم الوطنية في تبني قضيتهم لإيجاد الحلول والمعالجات المنصفة لها. أما على مستوى المجلس الانتقالي الجنوبي، فقد راودت مؤيديه مخاوف تخلي قيادة المجلس عن مواقفه المعلنة بتحقيق استقلال الجنوب واستعادة دولته والتفريط في المكاسب التي حققها كسلطة الأمر الواقع بعد أحداث أغسطس الماضي بسيطرته على معظم المحافظات الجنوبية المحررة منذ دحر غزو الحوثيين في مطلع 2015 وتحرير معظم الأراضي الجنوبية. وراهن منتقدو المجلس من قبل الجنوبيين الآخرين على أنه في نهاية المطاف سيتخلى عن مشروع استعادة الدولة الجنوبية، وسيقبل الاعتراف بمخرجات الحوار الوطني ومشروع الأقاليم الستة الذي قسم الجنوب إلى إقليمين، ولن يتم الاعتراف به من قبل المجتمع الدولي ممثلاً وحيداً وحصرياً للجنوب. على ضوء ما سبق، كيف عالجت الدبلوماسية السعودية، بمشاركة الإمارات العربية المتحدة، تلك المعضلات وتناقضات المواقف التي أشرنا إليها؟ من ناحية الشخصيات التي تمت دعوتها لحضور مراسم التوقيع على إعلان الرياض، فقد اقتصر على الرموز الرئيسية للسلطة الشرعية وللمجلس الانتقالي. ولم يُدعَ إلى اللقاء ما تم تداوله إعلامياً حول احتمال حضور ومشاركة بعض القادة العرب، والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث. كما فسّر البعض غيابهم بطلب أحد أطراف الشرعية، خشية إعطاء حضورهم اعترافاً دولياً غير مباشر بالمجلس الانتقالي. وبقراءة اتفاق الرياض، سيلاحظ أن صياغته حرصت على تفادي نقاط الاختلاف الرئيسية بين الطرفين، حيث نصّ على أن طرفي الاتفاق استجابا لدعوة المملكة للحوار، لمناقشة الخلافات وتغليب الحكمة والحوار ونبذ الفرقة ووقف الفتنة وتوحيد الصف. والتزاماً من تحالف دعم الشرعية في اليمن بالمرجعيات الثلاث؛ مبادرة مجلس التعاون الخليجي وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن رقم 2216 والقرارات ذات الصلة ومقررات مؤتمر الرياض، سنلاحظ هنا ما جاء في هذه الديباجة أن المرجعيات الثلاث المعتاد ذكرها من قبل الشرعية، أضيفت إليها مقررات مؤتمر الرياض، الذي انعقد عام 2015، وسنتساءل؛ لماذا هذه الإضافة الجديدة؟ وما مغزى عدم ذكر أن الطرفين اتفقا على تلك المرجعيات؟ وإنما وردت كالتزام للتحالف فقط، وما مضمون بقية بنود الاتفاق، وكذلك ملحقاتها الثلاث؟ وهو ما سنراه، ونتناوله في حديث قادم...