مقالات محمد مصطفى العمراني 92.243.17.112 كان من الضروري أن ينتبه حسن عبد السلام للمصير المجهول الذي ينتظره لكنه لم يدرك الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.! لقد استسلم لأحلامه الوردية التي حلق بها في أعالي السماء، ثم سقط على أرض الواقع بعد سنوات طويلة من الأحلام.! منذ طفولته وهو يخدم الشيخ، حتى أنه لم يرسله للفقيه في الكُتاب مثل أولاده، ولم يتعلم حتى قراءة كلمة.! وحين علم والده بتأسيس أول مدرسة في القرية جاء إلى الشيخ، سلم عليه وقبل رأسه وركبته، ثم قدم له قوارير السمن والعسل راجياً منه أن يرسل حسن للمدرسة كبقية الأطفال، لكن الشيخ رفض قائلاً: ومن سيخدمني؟ حسن يدي ورجلي، ولا أستغني عنه ساعة. توسل إليه ولكن دون جدوى. يومها غادر والده منزل الشيخ وهو يداري دموعه، لقد تذكر تلك الأيام حين انقطعت الأمطار، وأجدبت الأرض، ويبس الزرع في الحقول، وصارت مجاعة، وحينها أخذ ولده حسن وذهب إلى الشيخ: ابني هذا لك يا شيخ، يخدمك طيلة عمرك. قصدك مقابل أكله وشربه؟ لا يا شيخ... وارتبك عبد السلام دبوان ولم يستطع النطق وثقلت لسانه لكنه تماسك: أريد قطعة أرض في وادي عنة، سأنتقل بأسرتي إلى هناك وأبني منزلا متواضعاً، وأزرع الأرض وأعيش منها. صمت الشيخ وأطرق مفكراً فارتمي عبد السلام دبوان يقبل رجليه ويبكي ويتوسل إليه، فوافق الشيخ وأعطاه قطعة أرض كبيرة، تسقى طوال العام من نهر عنة، لكنه أشترط عليه أن يرسل له ثلث غلة الأرض في كل موسم. فوافق مكرها. وحينها كتب له الشيخ رسالة إلى وكيله هناك حملها وغادر مسرعا فتبعه حسن لكنه أعاده إلى جوار الشيخ قائلاً: أنت ستبقى عند الشيخ، وأنا سآتي إليك غداً. عاد وحيداً فسألته زوجته بلهفة: وأين حسن؟ عند الشيخ، سيعيش هناك، يأكل ويشرب ويلبس ويدرس، سيعامله مثل أولاده. وأضاف: الشيخ أعطاني أرض كبيرة في عنة، أزرعها لنا ونعيش من خيرها بدلا من أن نموت جوعا هنا. بعت ولدك يا عبده؟ ولدي معزز مكرم عند الشيخ، وسيأتي لزيارتنا في أي وقت. وكي يسكتها أضاف: الشيخ قال لي بلسانه: في أي وقت تريد ولدك تعال خذه. أخاف عليه من أولاد الشيخ، وأن يظل جائعا ولا يهتم به أحد. غداً تذهبي إلى " رضية أحمد " زوجة الشيخ وتوصيها عليه. ذهبت إليها بكل ما بقي لديها من دجاجات، واشترت لها حزمة من المشاقر، وترجتها وهي تبكي أن تهتم بولدها، فوعدتها أن تعامله كأولادها. حين صار شاباً أعطاه الشيخ سلاح آلي كلاشينكوف جديد، فلم تسع فرحته الدنيا، ومن حينها صار يرافق الشيخ كظله. في أي وقت يرسله ليأتي بأي رعوي ارتكب مخالفة، أو عليه شكوى، هذه المهام تسعده كثيرا، فهو يطلب أجرته أولاً، وإذا لم يعطه النقود يسحب أي خروف من زريبته، أو حتى دجاجات من حوشه، فلا يعود إلا بحقه. كل يوم يرسله الشيخ قبيل الظهر ليأتي له بالقات من الجبل، وفي الطريق يتوقف عند نبع الماء، تراه الفتيات قادما من بعيد فيتركن له عين الماء ليغسل القات، ثم يقطفه لمجموعة من الحزم الصغيرة. وحدها سعاد نعمان من تمازحه: حسن أريد حزمة من القات، أو سيشرغ الشيخ إن مضغه، لأني أصيب بعيوني. يعطيها بضعة عيدان من قات الشيخ ويحذرها: قولي ما شاء الله، وصلي على رسول الله، والله لو جرى للشيخ شيء أنت المسؤولة. ويضيف: لولا أن اسمك هو اسم خطيبتي ما أعطيتك شيء. وحين يصل حسن يضع القات في مكانه المعهود، ينظف ديوان الشيخ ويهتم بمجلسه على وجه الخصوص، يجهز له المداعة والماء البارد، ويتابع تجهيز الغداء، يعمل كل شيء. وحين يمضغ الشيخ القات ويسحب نفسا من المداعة " النرجيلة " يقول أمام الجميع: حسن ولدي ويدي ورجلي، وسأزوجه بسعاد بنتي. وحينها يطرق حسن خجلا، ويطير في سماوات أحلامه الوردية، ويظل شارداً في عالمه الجميل. ينصحه الناس: يا حسن زور والدك وأمك.. الشيخ هو أبي وأمي. ينصحونه ثانية: مهما فعل بك أهلك فهم دمك ولحمك، على الأقل من أجل أمك. أهلي باعوني والشيخ اشتراني. **** في امتحانات الثانوية العامة في مركز المديرية تشاجر سامح نجل الشيخ مع أحد الطلاب فشتم والده، وحينها اشتبك معه، وأثناء العراك خنقه سامح بقوة فمات الولد، وصرخ الطلاب يستنجدون بالإدارة والشرطة ففر نجل الشيخ إلى بلاد أخواله في عزلة بعيدة. وبلغ الشيخ الخبر فحشد مجموعة من المشايخ والأعيان، وساق أمامه الثيران، ولما بلغوا منزل والد القتيل أطلقوا الرصاص للاعتذار، وقدموا الثيران هجر وعقيرة. وفي ذلك المجلس قال الشيخ: أنا وصلتكم، ودخلت بيتكم طالبا عفوكم، والقاتل والمقتول أولادي نزغ الشيطان بينهم، وقد رضيت بحكمكم، وأنا وما أملك تحت أمركم. وتدخل المشايخ بالصلح، وقبل والد القتيل بالدية، وتم الاتفاق على اللقاء بعد أسبوع لتقديم الدية وإنهاء القضية. عاد الشيخ يجمع الأموال من الرعية والأعيان فلم يحصل بآخر الأسبوع إلا على نصف الدية، وتحير: هل يذهب للقاء بحسب الاتفاق؟ أم يطلب مهلة ليكمل المبلغ؟! وقد أشار عليه الجميع أن يفي بوعده ويذهب للقاء، وبقية المبلغ يكتب لهم سندا، ويجمعه خلال أشهر. وصل الشيخ ومن معه وقدم ما جمع من أموال قائلاً: هذا ما استطعنا جمعه خلال أيام. نصف الدية والبقية ستأتي. سأله أهل القتيل: متى؟ في القريب العاجل. أعطونا مهلة معقولة ومنا الوفاء. وما الضمانات يا شيخ؟ أكتب لكم سند بخطي. نريد رهن كبير. وحينها نزع الشيخ جنبيته من غمدها قائلاً: وهذه جنبيتي لم أنزعها قبل اليوم. أخذوا جنبيته ولفوها في خرقة نظيفة ثم قالوا: الرهن لا يكفي. أشار الشيخ للحاضرين بأن يقولوا شيئا، فأسر له أحد المشايخ بأن يعطيهم سلاحه الشخصي أيضاً: أرضهم ما دمت في أرضهم. حسن ناولهم البندق. سلم حسن بندق الشيخ مكرها فهو لم يتخيل أنه سيفارق هذا السلاح في أي يوم من الأيام. جنبيتك وسلاحك يا شيخ على العين وفوق الرأس، لكن.. قاطعه الشيخ: ماذا بقي؟! وأضاف: أنا كلمتي توزن جبل لكنكم لم تقدروني. فقط نريد أن تثقلوا الرهن. قال الشيخ: ما بقي إلا يدي ورجلي سأضعها فوق الرهن. ودهش الجميع عند سماع هذا الكلام من الشيخ وتطلعوا نحوه بإنصات. قال الشيخ: حسن هو يدي ورجلي وسأبقيه رهينة عندكم حتى ندبر بقية المبلغ. وأجهش حسن بالبكاء فزجره الشيخ: أنت رجل والرجال ما تبكي، وكلها أيام وتعود يا ولدي. ومرت أيام وأسابيع وأشهر وسنوات وحسن ينتظر وعد الشيخ. مات الشيخ.. وزوج أولاده سعاد لابن عمها ونسوا حسن الرهينة. باع والده كل المواشي، ثم جمع ما بقي من الدية من المشايخ وأهل الخير في المديرية وقام بتحريره. وأرسل أهل القتيل جنبية الشيخ وسلاحه إلى أولاده. عاد حسن مع والده بالكثير من الشيب والآلام، أما الأحلام فقد ماتت بين تلك الجدران. *قصة قصيرة 1. 2. 3. 4. 5.