في مؤتمر علمي مهيب وُسِمَ ب(صلح الحديبية فتح بغير سلاح) التقت ألباب وأفئدة مشايخ وباحثين من مجموعة دول عربية وإسلامية؛ برعاية كريمة من مركز الإمام (أبو عبد الله) الشافعي، بأرض عربية مباركة (عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة) وبإشراف مباشر من سماحة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/سمير مراد الشوابكة، وثلة من الأكاديميين ذوي التخصص المهني في السياسة الشرعية، وحكماء راسخين في العلم. تميز المركز برؤية أن الإسلام دين العدل والسماحة والوسطية وقبول الطرف الآخر كرؤية استراتيجية ذات أبعاد إصلاحية لما طرأ على الأمة من وهن وسوء حال؛ ويحمل القائمون عليه رسالة تتضمن دعوة الجميع إلى اعتماد المبادئ الحسنة في التعايش السلمي، انطلاقاً من علوم الشرع القائمة على الأصول والثوابت العامة للدين، وبخطة تنظيمية محكمة الإعداد بإدارة ذات جودة شاملة عنوانها العريض مشرقًا في أجمل صفحات التاريخ المعاصر: (نشر العلم والمبادئ على مراحل سنوية ضمن خطط عامة وشاملة)، لا تقتصر على الأردن الشقيق فحسب بل تطال أنوارها ربوع الدنيا بجهاتها الأربع، بقلوب مليئة بالحب للبشرية ومجسدة إنابة الحبيب المصطفى عليه وآله وأصحابه الصلاة والسلام المستوحاة من قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107). لم يكن المؤتمر العلمي ولا موضوعه وليد الصدفة؛ بل كان ناتجًا عن وعي حصيف ودقيق بما يدور على الساحة العربية والإسلامية من (اقتراب وابتعاد، ومحاكاة وملامسة، ورهبة ورغبة، وإدراك وقصور وعي، وفقه وسوء فهم) بالنسبة لنصوص الشريعة الغراء- مصادر التشريع- التي ما فتئت بعض القوى تَنسُب أنفسها للإسلام، تقوم بأعمال تناقض مضمون وجوهر دين الرحمة والسلام، وتؤول النصوص بحسب الهوى لا العلم، وتعلن الجهاد بغير تأصيل ولا حجج، ناهيكم عن التكفير والتفجير؛ لا تستوعب إلا لغة الحرب والدم، وتزعم أنها الفرقة الناجية متناسية ما تقوم به من فتن، وما يترتب على سلوكياتها الهوجاء من دمار وخراب في الأفكار والعمار والأرواح.. لعلاج كل ما يوجد في واقعنا من أسقام فكرية، وتجنيد سافر للنصوص، وعبث بالشعوب أرضًا وإنسانًا، وُجٍدَ مركز الإمام أبو عبدالله الشافعي الدائر بفلك القرآن والسنة من خلال طاقمه المتمكن بتصحيح المسار الشرعي والفتوى المتضمنة لمراد الله كما أمر، وما التمس من السيرة العطرة لقدوتنا وقائدنا الأعلى حبيب الرحمن رسول الهدى والنور عليه وآله وأصحابه الصلاة والسلام. بدأ المؤتمر العلمي بمحاضرات عصرية تقوم على الاستماع للمحاضر والمناقشة المشتركة والمداخلات المجدية وسبر أغوار أبجديات المواضيع المختارة تأصيلا ولغة، أصالة ومعاصرة وحداثة مرتبطة باستشراف المستقبل، وتشخيص لكل داء ابتداءً بالحيثيات والمسببات ومرورًا بدراسة الظواهر المرئية ثم بوضع الحلول الناجعة لما طرح من مآزق الفهوم وتنوع البيئات وتداخل الثقافات، مع فرز الثوابت عن المتغيرات، وفحوى النص الأقرب والقاعدة الأسلم والمصلحة الأوجب لكل معضلة ومشكلة فرضت نفسها واقعيًا لتعلقها بموضوع المؤتمر العلمي، والذي ركز بشكل أساس على المفاوضة والحوار والسلم والحرب، ودراسة الدراسات السابقة لصلح الحديبية، وتفكيك تلك الحالة المنيرة والمشرقة المليئة بالفتوحات المبينة لحملة منهج السلامة وراية السلام العالمي، وربط مواقف الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام بما تتطلبه المرحلة الراهنة من إحياء مبادئ أوشكت على الضياع، وسُننٍ باتت في أعماق بحار الساسة وأصحاب القرار شبه مكبلة وفي أراضي بعضهم موؤودة. ومما يثير العجب والدهشة هو التقاء مذاهب شتى، ومناهل شرعية متنوعة، وطرق تعبدية مختلفة، ومناطق جغرافية متباعدة تحت سقف واحد يدلي كل منهم دلوه بنفس الموضوع، ويطرح رأيه المستند لنص شرعي (قطعي أو ظني) الثبوت والدلالة بنية الحصول على الحكمة، والبحث عن الصواب المحجج، والخير الأحوط، بمعية تعريف عن البيئة التي يعيش فيها.. وهناك تلاقحت الأفكار، وبنى تدارس العلم مع سكينة الله دُورَ محبة ووداد بين المشاركين في صميم مُهجهم، وخَلقَ قناعة تفاهم وروح تعاون على البر والتقوى، ولأن للإسناد الشرعي أهمية بالغة في مسيرة الدعاة عاد كل من المشاركين إلى بلده بإجازات علمية شرعية عديدة لها سُلَّمُها المتواتر الوطيد إلى من لا ينطق عن الهوى بوجادة وإهداء كتب وإشارات بحث يوعز بها ويتضمنها؛ ناهيكم عن أجمل ذكريات عيش مع رفاق دعوة، ورجال إصلاح شرعي مجتمعي أخلصوا لله وزكوا أنفسهم بل وهبوها لله خدمة لأمتهم ودينهم وأوطانهم في زمن توسعت فيه دائرة الفتن، وامتزجت فيه النوايا، وتعمد البعض لتشويه أحكم وأدق وأصلح وأكمل دين تم بنعمة الله لمن أسلم، ولله استسلم، ولشرعه حَكَّم واحتكم. الأردنواليمن وليبيا والجزائر وكردستان العراق بما تربطهم وشعوبهم من أواصر وصلات قربى وعلاقات تعاون تجسدت صورة الإخاء والمحبة من خلال المؤتمر العلمي، وظهرت الحميمية الكامنة في خبايا النفوس، واتفق الجميع على نيل رضاء الله في القول والعمل؛ ودوام الصلة والدعاء بالخير مع التعاون الدعوي والبحثي وتقصي الوسائل العلاجية لكل ما من شأنه الارتقاء بالأمة وإحياء الفروض الكفائية فيها؛ وحمايتها من الأفكار الهدمية الدخيلة، ونشر الفكر الإسلامي الصحيح القائم على قاعدة: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(الإسراء: 9)، واعتماد مصادر التشريع المتفق عليها دستورًا دعويًا مع اعتبار رأي معاذ ابن جبل في خطابه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسله إلى اليمن؛ مع الاتقاء التام لمنهج التحريش الإبليسي المستشري في المجتمعات؛ وقذف حِمَمَه بوابل الخير الرباني الهادي والمراعي لمصالح العباد، والاتكاء على قاعدة قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَيَسِّرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) رواه السبعة واللفظ للبخاري. ولسان حال المشائخ والباحثين والدعاة المشاركين: نعم الفائدة ما استفدناها في مؤتمرنا هذا؛ ونظرًا للقيمة العلمية والثمار المجنية نأمل تكرارها وتنوع مواضيعها، واعتماد فروع لهذا المركز حديث السن عملاق (الفائدة والرعاة) في الأقطار العربية والإسلامية؛ وأثنوا لفظًا ومعنى لمن خطط ورعى هذا المؤتمر وارتسمت على سجدة الشيخ مؤسس المركز أنوارَ قبلاتهم الحارة المُبَجِّلة له والداعية بالخير والسؤدد والتوفيق والإخلاص وحماية الدين؛ وعاد الجميع من حيث أتوا بحيوية ونشاط، وزيادة بصيرة، ورافد علم، وجديد فكر، وطرق دعوة حديثة، راجين من الله الثواب والقبول.