معتمراً قبعة غربية سوداء، فيما عشرات الصور تتوالى على شاشة عرض منصوبة على يساره، بينها صور فلاحات يلبسن ثياباً ملونة ويعتمرن قبعات شعبية، يسرد الفوتوغرافي اليمني عبدالرحمن الغابري سيرة أزمنة وأماكن ووجوه وأحداث سجلتها عدسته خلال ما يزيد عن ثلاثة عقود في معرضه "اليمن بين أرشيف الماضي والحاضر" والذي احتضنته مؤسسة بيسمنت الثقافية في صنعاء. يقدم الغابري جانباً من تاريخ اليمن الاجتماعي والثقافي والسياسي، كما وثقته الصور المثبتة على الحيطان وتلك المعروضة بواسطة جهاز العرض. وتغطي صور الغابري الذي ينتمي الى الجيل الثاني من المصورين اليمنيين، مناطق عدة في ماكان يعرف بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية في الجنوب والجمهورية العربية اليمنية في الشمال قبل توحدهما في 1990. والصور المعروضة جزء من ارشيف اكبر يمثل ثمرة تجربة الغابري الممتدة الى 1968. لا يكتفي الغابري بالمعلومات عن مناسبة ومكان التقاط الصورة ومحتواها بل يتحدث بنبرة يكسوها الحنين، عن زمن سادته الطمأنينة الاجتماعية والثقافية وحاضر تثخنه الفوضى والقيود، متحسراً على ما يعتبره الغابري وآخرون زمناً ذهبياً شهدته الفنون اليمنية وجسدته العلاقات الاجتماعية. فالمسافة بين الرجل والمرأة، وفق ما تظهر الصور، كانت أقل كثيراً مما هي عليه الآن، وتستوي في هذا المدينة والقرية. تشكل صور الفوتوغرافي اليمني سجلاً يشمل الطبيعة والمجتمع ويوثق لتحولات ومسارات شهدتها البلاد صعوداً وهبوطاً، بدءاً من حضور المرأة في المجال العام كالانخراط المبكر للمرأة الجنوبية في سلك الشرطة. كما تؤكد الصور أن المرأة كانت في الشمال كما في الجنوب جزءاً من النشاط الفني الشعبي والرسمي. وتظهر بعض الصور نساء يعزفن على العود ويرقصن في الأماكن العامة وهو مشهد اختفى تقريباً، مثل عازف المزمار الجوال والذي تصاحبه فتاة ترقص. في شهادته الشفهية كما في صوره، يروي الغابري عن البساطة والتلقائية التي كانتها حياة الناس وعن قسوة جاثمة وقيود غير مكتوبة باتت تكتم الحياة الاجتماعية والثقافية. يقول وهو يشير بيده الى صورة تظهر الفرقة الموسيقية الرسمية، إن أعضاء في الفرقة تحجبن وتحولن إلى داعيات اسلاميات، مشيراً إلى أن هذا الزمن الجميل "غاب تحت سطوة الجماعات المتشددة". وما سجلته كاميرا الغابري هو امتداد لازدهار فني ثقافي شهدته مدينة عدن منتصف القرن العشرين، بيد أن هذا النشاط الذي ألقى بظلاله على مناطق شبه جزيرة العرب، ما لبث أن انحسر تدريجاً لأسباب مختلفة. فلئن شجع النظام الاشتراكي الذي امسك بالسلطة عقب استقلال الجنوب من بريطانيا، الفنون والآداب وحرية المرأة، فإن طبيعته الإيديولوجية الواحدية قوضت ثقافة التعدد التي عرفتها المدينة ابان السلطة الاستعمارية، كما قضى على الركيزة الاجتماعية والاقتصادية لازدهار الفنون. فاحتضان البرجوازية التجارية للفنون جعل من عدن في منتصف القرن العشرين نسخة مصغرة من بيروت والقاهرة، ومن ذلك ظهور صالونات أدبية مثال الصالون الأدبي للشاعرة صفية محمد علي المعروفة باسم "فانوسة". وبات واضحاً دور الإيديولوجيات في عرقلة التطور الطبيعي للمجتمع اليمني. ويتهم نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي حكم اليمن 33 سنة، معتمداً على تحالفه مع القوى القبلية والإسلامية (الإخوان المسلمون) بتكريس ثقافة مشوّهة قوّضت الثقافة الشعبية بتلقائيتها المنفتحة، ما أدى الى اندثار مظاهر فنيّة كحلقات الرقص المشتركة التي كانت تعقد في حفلات الزفاف وتجمع الذكور والإناث. ويقول الغابري إن تأثير الحرب فيه انحصر بخوفه على أرشيفه من الصور، مشيراً إلى أن كثيراً من صوره ما زالت أسيرة تقنية فيلم النيغاتيف ولم ترقْمَن بعد. وأثارت صور المعرض، الذي افتتح بمقطوعات موسيقية قدمها عازف العود فراس أبو مصطفى، نقاشاً حول طبيعة الوضع الذي آلت اليه البلاد. واستنتج بعضهم أن اليمن تراجع لأن الماضي كان أجمل وأفضل كما تُظهر الصور.